رأي

الدوافع اللبنانيّة لتهجّم السيّد على السعوديّة

كتب ايلي القصيفي في “اساس ميديا”: “وقع خطاب الأمين العام لحزب الله الأخير على تقاطع لحظتين، محليّة وإقليميّة، شديدتيْ التعقيد والخطورة. فمحلّياً تزامن الخطاب مع اشتداد الأزمة السياسية وبلوغ سعر صرف الدولار مستوى قياسياً جديداً أنذر بتفاقم المآسي اليومية للّبنانيين. وإقليمياً جاء الخطاب في وقت تشهد المنطقة تطوّرات عسكرية وسياسية متسارعة على وقع الغموض المتزايد الذي يلفّ مسار المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأميركا في فيينا.

ففي اليمن انقلبت المعادلة الميدانية ضدّ الحوثيين، وتحديداً في محافظتيْ مأرب وشبوه. وفي العراق سرّعت الميليشيات الموالية لإيران من وتيرة قصفها لأماكن تمركز القوات الأميركية، سواء بالقرب من مطار بغداد أو في قاعدة عين الأسد في الأنبار. وفي شمال شرق سوريا استهدفت الميليشيات الإيرانية قاعدة للتحالف الدولي بقيادة واشنطن بثماني قذائف صباح الأربعاء.

كان هجوم نصرالله على السعودية مقصوداً في توقيته ومضمونه، وليست دوافعه متّصلة وحسب بنعته من قبل القيادة السعودية بالإرهابي، بل إنّ له دوافع رئيسية متّصلة بسياسته اللبنانية الراهنة

كلّ ذلك يطرح سؤالاً أساسيّاً عن توقيت ودوافع هجوم نصرالله على المملكة العربيّة السعوديّة في خطابه الأخير. فهل كان هذا الخطاب دليلاً إضافيّاً على عدم إيلاء الحزب أيّ أهمية لارتدادات سياساته الإقليمية عل الداخل اللبناني حتّى في لحظة دخول لبنان مرحلة الانهيار الشامل؟ أم الحزب واعِ لهذه الارتدادات، ولذلك يستدعيها ويحاول استخدامها لمصلحته السياسيّة بغضّ النظر عن خطورة استراتيجيته تلك على البلد؟

الأكيد أنّ حزب الله شديد الاهتمام راهناً بالداخل اللبناني. فالساحة اللبنانية ساحة رئيسية لإيران الآن. ولذلك حسابات الحزب اللبنانية قائمة أساساً على أهميّة لبنان في الأجندة الإيرانية في المنطقة، ولا سيّما بعد الإخفاق السياسي لحلفاء إيران في الانتخابات العراقية، وفي ظلّ التراجع الميداني للحوثيين في اليمن. وأمّا في سوريا فتواجه طهران تحدّيات عسكرية وسياسيّة كبرى، حتّى لو دعت بثينة شعبان باسم بشار الأسد إلى توسيع محور الممانعة بقيادة إيران.

يعلم الجميع أنّ إيران ليست اللاعب الأوّل في سوريا، وحتّى في العراق، أمّا في لبنان فهي حتّى الآن اللاعب الرئيسي، ولذلك لبنان مهمّ جدّاً بالنسبة إليها، وهي تريد الحفاظ على نفوذها فيه بأيّ ثمن.

من هنا القول إنّ خطاب نصرالله الأخير لا يحمل أهدافاً لبنانية مباشرة، بل يلبّي الأولويّات الإيرانية في المنطقة وحسب، هو قول يجافي الحقيقة. فهذا الخطاب كان أكثر خطابات نصرالله اتّصالاً بالوضع اللبناني الداخلي حتّى لو كانت مناسبته وسياقه العام إقليميّيْن. أكثر من ذلك أراد نصرالله من هذا الخطاب في مطلع العام الجديد أن يكون افتتاحاً لمرحلة جديدة في سياسات الحزب الداخلية عنوانها الرئيسي تكريس موقع الحزب المتقدّم في اللعبة السياسية، ولا سيّما عشيّة الانتخابات النيابية المقرّرة في أيّار.

إنّ هدف نصرالله في المرحلة المقبلة هو ضمان فوز الحزب وحلفائه بالأكثرية النيابية لأنّ إمساك الحزب بها أمر فائق الأهمية بالنسبة إليه وإلى إيران بخلاف الوضع في العراق حيث تستطيع طهران استخدام أدوات غير سياسية في اللعبة الداخلية. ولذلك خسارة حلفائها في الانتخابات هناك لا تشكّل لها انتكاسة مفصليّة ما دامت تستطيع استخدام أدوات أمنيّة وعسكرية في الداخل العراقي، فيما قواعد اللعبة في لبنان مختلفة وحدود استخدام القوّة ما يزال محدوداً حتّى الآن، ولذلك “يستقتل” الحزب وإيران للفوز بالانتخابات. ولا ننسى أنّ وزير الخارجية الإيراني في آخر زيارة له للبنان أبدى استعداد بلاده لبناء محطات لتوليد الكهرباء ومترو أنفاق. وهذا يعكس رهان إيران على الاستفادة من نفوذها السياسي في لبنان، أو بالأحرى على ترجمة نفوذها العسكري فيه نفوذاً سياسياً واقتصادياً، فيما آفاق مسار كهذا تبدو مستحيلة في سوريا والعراق، وإن كانت في لبنان صعبة، أقلّه قياساً إلى طموح الوزير الإيراني.

إنّ الحزب بتصعيد وتيرة تهجّمه على السعودية أكّد مرّة جديدة أنّ “تفاهم مار مخايل” هو بشروطه وليس بشروط التيار

لذلك كان هجوم نصرالله على السعودية مقصوداً في توقيته ومضمونه، وليست دوافعه متّصلة وحسب بنعته من قبل القيادة السعودية بالإرهابي ولا بالوضع الإقليمي الراهن، بل إنّ له دوافع رئيسية متّصلة بسياسته اللبنانية الراهنة. ولو كانت المصلحة اللبنانية الراهنة للحزب تتنافى مع الدوافع الإقليمية للخطاب لكان أحجم عنه، أو على الأقلّ لكان نصرالله استخدم لهجة أقلّ حدّة مع السعودية كما دعاه الرئيس ميشال عون.

وفي السياق عينه، كان يتوقّع كثيرون في لبنان أن يردّ نصرالله بالمباشر على جبران باسيل الذي عقد مؤتمراً صحافياً همايونياً بعد رأس السنة بيوم واحد دعا فيه الحزب إلى تطوير “تفاهم مار مخايل” وإلّا فهو سيبحث عن خيارات أخرى لا يملك أيّاً منها أصلاً وسيسقط بسببها.

في الواقع لم يُرِد نصرالله على عكس باسيل أن يظهر أنّ ثمّة مشكلة جدّيّة في العلاقة بين الحزب والتيار الوطني الحر بغضّ النظر عن طبيعة العلاقة بينهما حالياً. فأولويّته الآن هي الإمساك بكلّ أوراق قوّته السياسيّة، بما فيها تحالفه مع التيار، مستغلّاً اضطرار التيار إلى التحالف معه إلى أقصى حدّ.

إنّ الحزب بتصعيد وتيرة تهجّمه على السعودية أكّد مرّة جديدة أنّ “تفاهم مار مخايل” هو بشروطه وليس بشروط التيار. فباسيل كان قد “انتقد” في مؤتمره الصحافي تدخّل الحزب في نزاعات المنطقة، ودعا إلى أفضل العلاقات مع الدول الخليجية، وفي مقدَّمها السعودية. لكنّ نصرالله أطاح بكلّ تحفّظات نائب البترون، وهاجم المملكة أكثر من ذي قبل، ومع ذلك التزم باسيل الصمت.

لكن أبعد من إطار علاقته مع التيار والرئيس فإنّ الحزب أراد مرّة جديدة اختبار القوى السياسية “المعارضة” له، وتحديداً اختبار مدى استعدادها لتعديل تموضعها وأخذ خطوات سياسيّة جديّة اعتراضاً على تدخّل الحزب في صراعات المنطقة وتهجّم نصرالله على المملكة العربية السعودية.

عمليّاً يستخدم الحزب هذا التكتيك للتأكيد أكثر على اختلال التوازن السياسي في البلد ولإظهار مقدار تحكّمه بقواعد اللعبة السياسية من خلال إمساكه بقيود القوى السياسية التي تحور وتدور ثمّ تخضع لأولويّاته تحت سقف حتميّة المساكنة معه في الدولة والحكم.

وهو ما حصل في الأيّام القليلة الماضية، فما إن خرج نصرالله مهاجماً السعودية حتّى بدأت بيانات الاستنكار تصدر واحداً تلوَ الآخر. ثمّ وبسحر ساحر عادت الأمور إلى مسارها “الطبيعي” وكأنّ شيئاً لم يكن، وعادت القوى التي أدانت هجوم الحزب بأشدّ العبارات إلى تدوير الزوايا معه وتلبية أولويّاته تحت ذريعة توفير الأرضية السياسيّة المناسبة لمعالجة تبعات الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، سواء في البرلمان أو في مجلس الوزراء الذي يعطِّله الحزب منذ نحو ثلاثة أشهر.

وهو ما يحيلنا إلى مستويَيْ الأزمة السياسية اللبنانية. فمن ناحية يستخدم الحزب كلّ أدواته المُمكنة لتأكيد نفوذه وتدجين القوى السياسيّة وإظهار ضعفها إزاءه، حتّى لو تسبّب ذلك بمفاقمة الانهيار الاقتصادي وتعميق الاختلالات السياسيّة والوطنية. ومن ناحية ثانية تبقى القوى السياسيّة “المعترضة” على سياسات الحزب أسيرة مقاربتها التقليدية للعلاقة معه، سواء في كنف الدولة أو خارجها. وهذا في وقت اختلفت المقاربة العربية، لا السعودية وحسب، للتعامل مع ملفّ حزب الله في لبنان. وهو ما يشير إليه كلام السفير السعودي وليد البخاري بقوله إنّ أنشطة الحزب تهدّد الأمن القومي العربي، إضافة إلى أنّ غياب أيّ تحرّك عربي تجاه لبنان في الآونة الأخيرة يصبّ في الاتّجاه عينه، وكان قد حُكِي عن زيارة لوزير خارجية الكويت قريباً لكن سرعان ما سُحبت من التداول.

ولا ريبَ أنّ هذه الإشكالية العربية في العلاقة مع لبنان بسبب سياسات الحزب باتت مسألة إقليمية، وبات حلّها جزءاً من التسويات الإقليمية والدولية في المنطقة. وإلى حينه فإنّ الدينامية الداخلية إزاء هذه الإشكالية ستظلّ دون الدينامية العربية إزاءها. وهذا ما يعمل عليه حزب الله من خلال تعميق الاختلال في التوازن السياسي الداخلي بغية منع أيّ تحوّل جدّيّ في تعاطي القوى السياسية معه يواكب التحوّل في المقاربة العربية الشاملة للملفّ اللبناني.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى