الخيار المؤلم في السودان
كتب عمر العمر, في “العربي الجديد” :
ليس الخيار في السودان بين الجيش و”الجنجويد”. محور القضية استرداد الدولة. انتقاد قيادة الجيش يوازي نقد إدارة المصرف المركزي، كلاهما من أذرع الدولة. نقدُهما لا يعني التجريم، بل غايتُه التقويم. الانحياز للجيش الراهن يجسّد مساندةً لقيادة فاشلة. ترقّب بناء دولة ديمقراطية بمؤازرة الجنجويد ليس بِرهاناً سياسياً خاسراً، بل كابوسٌ طينته الجهل والعوز. قيادة أركان الجيش لم تخفق في أداء مهامّها المهنية إزاء تأمين سلامة السلطة والمواطن فقط، بل هي شاهد (إن لم تكن فاعلاً) على تشقّق الوطن أرباعاً خارج هيمنة الوحدة المركزية، كذلك افتقاد الشعب إلى مظلّة الأمن القومي. القيادة مسؤولة عن تسمين الوحش كاسرَ قيود الأخلاق والقيم الوطنية. ما من عاقل يخيّرنا بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). الرأي الغالب (إن لم يكن إجماعاً) افتقارهما إلى الحدّ الأدنى من كاريزما القيادة الوطنية، فلماذا يضعنا من يدفنون رؤوسهم في وسائد المنافع الدنيئة بين خيارَي هدم الدولة (وتفتيت الوطن) وتعذيب الشعب؟ … من لا يرى في هذه الحرب غير صراع على السلطة والثروة فليحاسب رؤاه، دماغه وضميره. لا أحد يرغب في رؤية جيشٍ مهزومٍ أمام مليشيا، لكن هل بانتصار هذه القيادة نسترد الدولة الحلم؟ بل هل نجد ذلك الجيش الوطني؟
الوحدة الوطنية لا تُلتمس أو تخلق إبّان الأزمات. هي قيمة خالدة تكرّس قيادةُ الدولة وشعبُها الجهودَ لغرسها ورعايتها، فتتحوّل تلقائياً مكوّناً وطنياً في الواقع والوجدان. من ثمّ تصبح مكتسباً ينهض الجميعُ بغية الحفاظ عليه منتعشاً، فيتحوّل قوّةً دينامكيةً تمنح الشعب طاقةَ البذل من أجل الارتقاء بالوطن. كما تولّد طاقةً تلقائيةً للذود عن الدولة ضدّ كلّ عدوان. بما أن الوحدة الوطنية تشكّل القاعدةَ الأساسية لبناء الدولة الحديثة، فلا بدّ من إعلائها انتماءً فوق الولاءات كافّة. ربما تكون الشراكة بين المجتمع المدني ومؤسّسات الدولة أفضل رافعة لإنجاز هذا المشروع. ثمّة أعمدةٌ أساسيةٌ لاستكمال بنيان الوحدة الوطنية، منها العدالة، والاستقرار، والتسامح، والتعايش والاستقرار. فإلى أيّ مدىً ساهم زبانية هذه الحرب في بناء وتعزيز الوحدة الوطنية؟
وفق القانون الدولي، الدولة كيان سياسي يعبّر عن ذاته عبر حكومة تتمتّع بالسيادة على الرقعة الجغرافية للدولة، على أن تنعم الحكومة بولاء شعبٍ مستقرٍّ داخل تلك الرقعة. كلنا نعلم أن انقلاب الإخوة الأعداء في أكتوبر/ تشرين الأول (2021) لم يكن ضدّ الحكومة، بل كان انقلاباً على ثورة ديسمبر (2018). بغضّ النظر عن مدى نجاح تلك الحكومة أو إخفاقها. الثابت كذلك أن الحكومة المشكّلة في ظلّ الانقلاب لم تكن تنعم بسندٍ من جماهير الثورة، من ثمّ لم تنعم بشعبية أوسع من سابقتها، بل سقطت الدولة برمّتها في فخّ التناحر على نحو أفضى إلى كارثة تحطيم مؤسّسات الدولة، وتشتيت الشعب. فعلى أيّ المتناحرين يمكن الرهان بغية استرداد ما يتبقّى من الحطام؟!
الرهان على تحقيق فريق نصراً حاسماً على الآخر يرفع سقف الزمن إلى فضاء المجهول، فوق معاناة النازحين واللاجئين
تستمدّ الدولة هيبتها من قدرتها على إنفاذ سلطة القانون. لكن ربّما يستحيل الفصل بين سيادة الدولة وحفاظها على وحدة تراب الوطن. تحت سلطة الجيش وحلفائه يكابد تراب الوطن شرّ التجزئة، فبعد الخسارة الفادحة المتجسّدة في جذع الوطن (الجنوب) عجزت قيادات الجيش عن وقف تآكل ما تبقّى من جُنباته، فهناك مناطق خارجة بالفعل عن مظلّة الدولة المركزية العاجزة المهترئة، فعبد العزيز (غير) الحلو يتملّك بوضع اليد والسلاح رقعةَ ثرواتٍ ثرّة، وكتلةً بشريةً تكفي مقوما دولة، أو هكذا يحاجج. على جبال النوبة يبسُط عبد الواحد نور نفوذاً سياسياً خارج سلطة الدولة المركزية كذلك. في الغرب، تكابد مساحاتٌ شاسعةٌ بمن عليها العذاب اليومي، بعيداً من يد الدولة، وخارج شمس العصر. كذلك في الشرق تتوغّل قبائلُ من وراء الحدود فتزرع وتحصد، وتتطلّع بعد الانتفاع بخيرات الأرض إلى السكنى الدائمة.
انبثق مصطلح الجيش مع القوة البرّية. حتى بعد تعدّد أفرع الجيش إلى قواتٍ جوية وبحرية، تظلّ القوة البرّية عظم تلك القوات. فالحديث عن إخفاق المشاة أمام المليشيا يفضح عجز قيادة الأركان، إذ أضاعت عُمَد البنيان العسكري. أزمة هذه القيادة أنها لم تصرّ على أن تستبدل بحلبة السياسة ميدان التدريب العسكري فقط، بل ذهبت في بناء تحالفات أشبه بالرقص مع الذئاب. الجنرالات، الضباط الانقلابيين، كلّهم، يتوهّمون بعد استيلائهم على السلطة القضاء على المعارضة السياسية. كل مواطن ينهض بالرأي الناقد أو الحُجّة يصبح في عين الانقلابيين عدوّاً خائناً للدولة يتعرّض للتخوين، والتنكيل، والتصفية. هكذا أضاعت شلّة الجنرالات الانقلابيين الطريق والبوصلة، إذ اصطدمت بقطاع عريض من جماهير الثورة. هم يتحمّلون أوزاراً أثقل من أُحد، حينما نحاكم فعايل “الجنجويد” الدموية واللاأخلاقية.
تعرية عجز أركان الجيش وخطاياها لا تعني مساندة “الجنجويد”، فالرهان على المليشيا من أجل بناء الدولة الحلم رهانٌ خائبٌ لا يقرأ أصحابه التاريخ والحاضر. تلك قناعة راسخة عبّر عنها كاتب هذا المقال غداة انفجار حرب الحلفاء الأعداء، فما من مليشيا مسلّحة نهضت بمهام بناء دولة معافاة من التوغل والقمع والإرهاب والإذلال والدم والإفقار. ما من إنسان سويٍّ لا تحمله ممارسات “الجنجويد” على إدانتهم بأقذع أشكال التجريم، وفق سنن القانون الأخلاقي قبل القانون الدولي.لا أحد يبدو مهتماً باتساع “جحيم دانتي”، ولا بكبح عمليات الإبادة الجماعية. لا أحد يُخالجه شيءٌ من قلق إزاء تدفّق أعداد المهجَّرين. مع آليتنا الدبلوماسية المعطوبة، ينبغي الأخذ في الاعتبار انشغال مراكز صنع القرار (رغم وهنها) بأكثر من جبهة ساخنة على نحو أفقدها فعّالية صناعة السلام.
الخيار المتاح سودانياً قبول أطراف الاقتتال صفقات قد تبدو مؤلمةً، من شأنها كفّ انتشار لهيب الحرب ورمادها
إذاً، كيف نطفئ هذه الحرب حمّالة الشعب، والأتعاب والأحزان فوق احتماله وصبره؟ … الرهان على تحقيق فريق نصراً حاسماً على فريق آخر يرفع سقف الزمن إلى فضاء المجهول، فوق معاناة النازحين واللاجئين. انتظار تصدّع شبكات “الجنجويد”، كما نفاد مخزونهم من الرجال والعتاد، لا يبشّر بحكمة نافذة أو فهم موضوعي عميق. استنفار الشباب من معسكرالسلطة يعيد إنتاج محرقة حرب الجنوب، بما في ذلك شحنها الأيديولوجي. القوى المدنية لا تتمتّع بمقوّمات صناعة لوبياتٍ ضاغطةٍ على قوات تمتشق أسلحة النار للانتقام والثأر. هي قوىً خلعت حاسّة الإصغاء لأنين المعذَّبين في المنافي وسماع نداءات السلام. ترقّب حلول من الخارج يفتح الوطن أكثر أمام تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وهو ما يوسّع جبهات الاقتتال ودوائر المعاناة. نحن نفتقد قيادة ذات كاريزما خلّاقة ذات مغناطيسية شعبية يمكنها استقطاب سند جماهيري أو على الأقلّ تجميع ما يمكن من شظايا القوى السياسية المدنية، بغية استرداد ما يمكن من مؤسّسات الدولة على صعيد الأمن والتعليم والخدمات.
إذاً، متى نطفئ نار الحرب؟ بل كيف؟ … لعلّ الخيار المتاح (رغم صعوبته على نحوٍ يبدو كأنّه مستحيلٌ) هو القبول بإبرام صفقات قد تبدو مؤلمةً بين أطراف الاقتتال، من شأنها كفّ انتشار لهيب الحرب ورمادها. فكيفما تداعت أوجاع تلك الصفقات فلن تكون أكثر إيلاماً من إطالة أمد هذا الحريق؛ التدمير والتهجير، فمع استشراء نار الحرب تزداد مخاطر أخاديد الوحدة الوطنية، تتعدد هتوك النسيج الاجتماعي، خاصّة تحت غبار التجييش القَبَلي وتجريف الأطر السياسية النخرة. ذلك كلّه يشكّل تحريضاً مغرياً لجهات متربّصة بغمس أسلحتها في اللحم السوداني، وأياديها في خيرات الأرض، بغية تحقيق مطامعَ لا تبدو مرئيةً كلّها للقيادات العسكرية والسياسية.