رأي

الخلافات حول الجوهر وليس التفاصيل

كتب نبيل فهمي في صحيفة إندبندنت عربية.

في حديث صحافي لي أخيراً على تلفزيون “بي بي سي”، استفسر المذيع عن المفاوضات الجارية حول غزة وأسباب تعثرها مكرراً حول بعض التفاصيل، فكانت إجابتي صريحة ومباشرة أن الخلاف ليس حول التفاصيل وإنما بالنسبة إلى جوهر النزاع.

وتابعت بعد ذلك بأيام الأخبار المتناقلة إعلامياً أن إسرائيل والولايات المتحدة تعيدان النظر في فكرة الحلول الجزئية والمرحلية لمصلحة حل شامل وكامل، وللوهلة الأولى وجدت في ذلك مؤشراً إيجابياً، وقد تزامن ذلك مع إعلان عدد من الدول الغربية عزمها الاعتراف بدولة فلسطين خلال الخريف المقبل، فضلاً عن انتهاء مؤتمر الأمم المتحدة حول “حل الدولتين” برعاية السعودية وفرنسا.

إلا أن تجربتي التفاوضية الطويلة جعلتني لا أتسرع وأتابع الأخبار بدقة، فتبين أن المقصود بكلمة شاملة صفقة لإعادة المختطفين كافة مقابل بعض المحتجزين الفلسطينيين وإنهاء الحرب في غزة، وأن إسرائيل أسرعت لتؤكد أن قيادات حركة “حماس” مستهدفين في أي مكان حتى خارج القطاع، وتجنبت الالتزام بأن وقف الحرب يعني انسحابها من القطاع، أو حتى تراجعها عن مطلب رئيس سابق، وهو استمرار اليد العليا الأمنية الإسرائيلية في غزة، ولم يجرِ التطرق مطلقاً إلى حل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي وإنهاء الاحتلال في الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة، بل على نقيض كامل من ذلك أصدر الكنيست قانوناً بضم الضفة الغربية لنهر الأردن، وأعلن رئيس الوزراء عزمه احتلال غزة بالكامل.

ببساطة وصراحة كاملة، المشكلة الفلسطينية- الإسرائيلية في غزة، وكذلك في الضفة، في الحاضر والماضي، لم تتعثر نتيجة الاختلافات حول التفاصيل، حتى عندما كان النقاش بين الوسط السياسي في الساحتين والمؤيدين للمسار التفاوضي السلمي، وإنما المشكلة تكمن في اختلافات حول جوهر النزاع وهو إنهاء الاحتلال، فضلاً عن غياب الثقل السياسي والصدقية لدى الوسط السياسي، والضروري لكي يرجح مواقفه على التوجهات السياسية لليمين الذي يتبنى مواقف أيديولوجية لا تتسق مع الحل السلمي للنزاع على أساس إقامة دولتين مستقلتين، وأكبر دليل على ذلك أن إسرائيل تحكمها أكثر الحكومات تطرفاً منذ إنشائها، وأن “حماس” وتيارات أخرى هي المهيمنة فلسطينياً على ملف مفاوضات غزة، علماً أنني لا أساوي أبداً بين مسؤولية دولة الاحتلال وشعب تحت الاحتلال.

العقبة الرئيسة وراء تعثر مسار حل النزاع هي أن الغالبية العظمى في إسرائيل لا تؤيد إقامة دولة فلسطينية، واتجهت الدفة السياسية يميناً بتبني ممارسات للتهجير القسري والإبادة الجماعية والمجاعات، وترددت وفشلت التيارات السياسية الأكثر اعتدالاً في تحريك الساحة الإسرائيلية نحو  “حل الدولتين”، بل لا يوجد تصريح واحد لأي رئيس وزراء إسرائيلي منذ إنشاء الدولة يعكس تأييده لإقامة دولة فلسطين، أي إن الموقف الإسرائيلي في أحسن أحواله لم يكُن كافياً أصلاً بالنسبة إلى جوهر القضية ولم ينجح الوسط السياسي في جذب الساحة الإسرائيلية نحو الحل، كما أن ممارسات التيارات المتطرفة تستهدف إقامة إسرائيل الكبرى.

فإسرائيل لا تؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة وتعمل الآن بكل شغف وعنف للقضاء على القضية الفلسطينية شعباً وأرضاً، هذه هي المعضلة الأولى.

في المقابل المطلب الإسرائيلي الرئيس الجامع لليسار واليمين هو ضرورة الاتفاق على ترتيبات تمنع تهديد إسرائيل من الأراضي التي تنسحب منها في الضفة والقطاع، مع وجود قدرات أمنية إسرائيلية على نهر الأردن لتجنب تهديدات من الدول العربية المجاورة، وأضيف إلى ذلك الآن التمسك بوجود عسكري داخل غزة، على رغم أن السلطة الفلسطينية أكدت أن اهتماماتها دفاعية، ولم ترفض فكرة الاتفاق على الترتيبات الأمنية لاطمئنان الأطراف من العمليات المفاجئة، وإنما لم تلتزم تيارات فلسطينية مقاومة على يمين الخريطة ترتيبات جوهرية أو نزع السلاح في غياب الاتفاق على “حل الدولتين”.

ثم شهدنا أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وما تلاها من قتلى أبرياء من أهل القطاع، وازدادت المسألة توتراً وتعقيداً على الجانبين، وهنا أود إيجاز المعضلة أمامنا في مجموعة خلاصات:

– لن يتحقق للإسرائيليين الأمن والأمان إلا بإقامة دولة فلسطينية وإنهاء النزاع.

– لن يتحقق للفلسطينيين حلم الدولة الوطنية المستقلة على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية مع تبادل محدود لبعض الأراضي إلا إذا شعرت إسرائيل بالأمن والأمان.

– لا يستطيع الوسط السياسي الإسرائيلي أو الفلسطيني ترجيح الدفة وخلق الزخم السياسي لاتخاذ قرارات تاريخية تحسم النزاع، ويتطلب الأمر حراكاً سياسياً دولياً واسعاً للضغط على الوسط الإسرائيلي والفلسطيني وتنشيطه.

مسألة استقرار وإعادة إعمار غزة ستحتاج إلى موارد ضخمة للغاية وعلى مدى سنين طويلة، فضلاً عن أن هناك حاجة لخلق جهة إدارية وآليات أمنية إقليمية ودولية بموافقة فلسطينية لإدارة غزة وتأمينها مرحلياً، كما طرح في المبادرة المصرية- العربية، وهي أمور لن تتحقق إلا في إطار الحل الكامل والدائم للنزاع لأن الدول ستتردد في المساهمة مادياً وبالنسبة إلى الترتيبات الإدارية والأمنية للقطاع إلا في سياق إنهاء النزاع.

على المجتمع الدولي، بخاصة الجمعية العامة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي القيام بدور أكثر فاعلية، فبالنسبة إلى الجمعية العامة يجب إصدار قرارات متابعة لمؤتمر “حل الدولتين” لتدخل قراراته حيز النفاذ في فترة زمنية محددة، فضلاً عن اتخاذ إجراءات تجاه إسرائيل في ظل تعنتها، خصوصاً ما يتعلق بضم الضفة الغربية والتوسع في غزة بعد انتهاء المؤتمر بأيام.

كما يجب أن يصدر قرار عن مجلس الأمن تتبناه الدول الأعضاء في المجلس كافة لإعطائه الثقل السياسي المطلوب، ويتجنب الحساسيات الغربية- الروسية، على أن يشمل القرار:

أ- خطة تفصيلية لإعادة إعمار غزة، وإدارة القطاع وتأمينه.

ب- خطة شاملة ومتكاملة لحل النزاع على أساس الشرعية الدولية لتحقيق المطالب الوطنية الفلسطينية بإقامة دولة ذات سيادة على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ووضع ترتيبات خاصة لإدارة وتأمين أماكن العبادة، وطرح خاص بعودة أو تعويض اللاجئين الفلسطينيين.

ج- قواعد وترتيبات للاستجابة للحاجات الإسرائيلية والفلسطينية الأمنية لتجنب الأخطار الأمنية المفاجئة.  

 د- إنشاء آلية دولية للمراقبة والمتابعة للفترة التنفيذية الأولى لهذه العناصر المختلفة والتي قد تمتد إلى حين بناء الثقة بين الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية.

الحل في تجنب السقوط في فخ التفاصيل والمطالب التي لا تنتهي والحسم في التركيز على جوهر النزاع وتمتع جميع الأطراف بحقوق متساوية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى