الحوثيون.. وحرية الملاحة في البحر الأحمر
كتب رخا أحمد حسن في صحيفة الشرق.
يسعى الحوثيون على قدر الإمكان وبما يتوفر لديهم من إمكانيات عسكرية وأمنية ومعلومات، سواء بجهودهم الذاتية أو بمساعدة إيران، أن يظهروا تأييدهم العملى للمقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة بقيادة حماس، منذ أن اشتدت الحرب الإسرائيلية الوحشية المدمرة على القطاع بسكانه من المدنيين الفلسطينيين، وفرض إسرائيل حصارا قاتلا عليهم لتجويعهم وحرمانهم من الطعام الكافى والدواء والوقود، رغم كل الجهود العربية والدولية لوقف القتال ورفع الحصار، ووقف التهجير القسرى للفلسطينيين فى القطاع، حيث بلغ عدد النازحين نحو 1,7 مليون نازح للمدارس والمستشفيات ولأرض فضاء بلا مأوى ولا طعام ولا مياه ولا دواء ولا وقود، وبدون مرافق أساسية، وتجاوز عدد القتلى ٢٠ ألف شهيد، والجرحى أكثر من ٥٠ ألف جريح.
وقد بدأ الحوثيون الإعراب العملى عن هذا التأييد بإطلاق صواريخ وبعض المسيرات مستهدفة ميناء ومدينة إيلات جنوب إسرائيل، وتعددت هذه الإطلاقات، ولكنها لم تكن دقيقة التصويب على أهداف مؤثرة وسقط معظمها فى أماكن بعيدة أو على مبنى صغير، وكان تأثيرها الأساسى على الناحية الأمنية للعاملين فى الميناء ومدينة إيلات.
ويلاحظ أن الحوثيين لم يهتموا بالتحذيرات الأمريكية والغربية من عواقب تدخل أطراف إقليمية فى الحرب على غزة، والمقصود من يتدخلون لصالح المقاومة الفلسطينية.
إزاء تمادى إسرائيل فى عدوانها الوحشى المدمر وقتل المدنيين الفلسطينيين، وإزاء ضعف فاعلية الوسائل العسكرية الموجهة ضد إسرائيل، اتجه الحوثيون إلى وسيلة أخرى مؤلمة لإسرائيل اقتصاديا، وهى منع مرور السفن الإسرائيلية من مضيق باب المندب، ثم تطور الأمر إلى إعلان الحوثيين منع جميع السفن المتجهة أو القادمة من إسرائيل، وإخضاع السفن العابرة فى باب المندب إلى البحر الأحمر أو إلى خليج عدن وبحر العرب للمراقبة ومعرفة شحنتها ووجهتها للتأكد من عدم قدومها من إسرائيل أو اتجاهها إليها. وتمكن الحوثيون فى 19 نوفمبر 2023 من احتجاز السفينة «جالاكسى ليدر» لعلاقاتها بإسرائيل، ومازالت محتجزة قبالة مدينة الحديدة وتحويلها إلى مزار لليمنيين، خاصة أنصار جماعة الحوثى.
أعلن الحوثيون أنهم يستهدفون السفن التى لا تستجيب لنداءات تقديم بياناتهم لمعرفة خط سيرهم، ومن لا يستجيبون للرسائل التحذيرية، فإنهم يعرضون أنفسهم لإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة عليهم. وقد تم إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة على بعض السفن التى تجاهلت مطالب الحوثيين. وذكر الأمريكيون أن مدمرة أمريكية فى المنطقة أسقطت 14 طائرة مسيرة فى البحر الأحمر أطلقت من مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين فى اليمن، ويلاحظ أن هذا توافق مع زيارة وزير الدفاع الأمريكى للمنطقة أثناء وجوده فى البحرين وقطر لبحث فكرة إنشاء تحالف دولى لحماية الملاحة البحرية فى خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر من مخاطر هجمات الحوثيين المتهورة، على حد وصفه لها. وقد سبق وزير الدفاع الأمريكى فى القيام بجولة فى المنطقة مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان، الذى زار إسرائيل ودولا عربية، وتسرب أنه لم يتمكن لا هو ولا وزير الدفاع أوستن من إقناع السعودية ولا قطر ولا الإمارات العربية والكويت وعمان من قبول إعلانهم الانضمام للتحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتأمين الممرات المائية والملاحة التجارية الدولية فى المنطقة، خاصة باب المندب والبحر الأحمر.
وقد أسفر الأمر عن تشكيل هذا التحالف من عدة دول بقيادة أمريكية، وأهمها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وهولندا والنرويج وجزر سيشل والبحرين الدولة العربية الوحيدة المعلنة فى هذا التحالف بحكم أن فيها قاعدة أمريكية تعتبر نقطة ارتكاز أساسية للأسطول الحربى الأمريكى الخامس الموجود حاليا فى منطقة الخليج لمنع تدخل إيران الأوسع فى الحرب على غزة عن طريق حزب الله فى لبنان، والحشد الشعبى فى العراق، والحوثيين فى اليمن، وضمان انفراد إسرائيل، بدعم أمريكى غربى بالحرب على المقاومة الفلسطينية فى غزة والضفة الغربية.
• • •
الواقع العملى يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست فى حاجة فعلية إلى تشكيل هذا التحالف الدولى، حيث تتوفر لديها القواعد العسكرية سواء فى جيبوتى المواجهة لباب المندب أو دول الخليج وهى ليست بعيدة عن البحر الأحمر. ولكن واشنطن منذ أكثر من ثلاثة عقود ومنذ الثورات العربية، لا تريد التدخل فى القضايا والأزمات فى المنطقة عسكريا بمفردها حتى لا تتلقى وحدها ردود الأفعال الرافضة لهذا التدخل، وحتى لا تظهر بأنها دولة استعمارية كبرى تضطلع بدور شرطى العالم دون أن يطلب أحد منها ذلك.
كما أن فاعلية هذا التحالف فى منع الحوثيين من وقف الملاحة البحرية من وإلى إسرائيل عبر باب المندب والبحر الأحمر ضعيفة للغاية، لأن الحوثيين يستخدمون الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة قصيرة المدى التى يمكن إطلاقها من أى مكان قرب باب المندب أو مدخل البحر الأحمر. كما لا يتوقع أن يشن هذا التحالف حربا على الحوثيين حتى لا تتسع دائرة الصراع فى المنطقة من ناحية، ونظرا لتعايش الحوثيين مع الغارات الجوية على مدى ثمانية أعوام من الحرب فى اليمن. وأما عدم إعلان قبول الدول العربية ــ خاصة دول الخليج ــ المشاركة فى هذا التحالف، رغم أنها معنية بالدرجة الأولى بحرية الملاحة فى المنطقة لنقل البترول والغاز الذى تصدره إلى أوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس، ذلك لأنها ترى تحيزا أمريكيا غربيا صارخا لصالح إسرائيل وأنهم بدلا من العمل على وقف القتال فى الحرب على غزة وبالتالى وقف هجمات الحوثيين على السفن المتجهة من وإلى إسرائيل، يسلكون طريق الضغط على الدول العربية لصالح إسرائيل لتستمر فى حربها وعدوانها على غزة.
وقد أعلن الحوثيون أنهم مستمرون فى استهداف السفن المتجهة من وإلى إسرائيل وأن هجماتهم ليست موجهة إلى أى سفن أخرى متجهة أو قادمة من جميع دول العالم، وهددوا بأنه إذا لم تستجب السفن إلى تعليماتهم لمعرفة حمولتها ووجهتها، فإنهم قد يغرقونها وليس فقط إصابتها أو الاستيلاء عليها، وأن لديهم الوسائل الكفيلة بإغراقها. وقد قامت عمان بدور فى نقل رسائل أمريكية وأوروبية إلى الحوثيين للكف عن مهاجمة السفن، ولكنهم تمسكوا بموقفهم موضحين أكثر من مرة أن المقصود هو إسرائيل إلى أن توقف عدوانها على غزة ولا تعيق تأمين وتدفق المساعدات الإنسانية الكافية إلى قطاع غزة كله بما فى ذلك الطعام والدواء والمعدات الطبية والوقود.
• • •
وقد اختار عدد من شركات الملاحة البحرية الكبيرة الانحياز إلى جانب إسرائيل بدلا من الاستجابة لمطالب الحوثيين الذين أكدوا أنهم يقصدون فقط السفن المتجهة من وإلى إسرائيل، وأوقفت هذه الشركات مرورها فى باب المندب والبحر الأحمر وغيرت مسار السفن التابعة لها إلى رأس الرجاء الصالح والدوران حول جنوب وغرب وشمال أفريقيا للوصول إلى الدول الأوروبية فى البحر المتوسط، وبالتالى وقف عبورها فى قناة السويس إلى أن تهدأ الأمور ويعود الأمن للملاحة البحرية فى المنطقة. وقد دعت الغرفة الدولية للشحن البحرى الدول المؤثرة فى المنطقة إلى العمل بشكل عاجل لوضع حد لتصرفات الحوثيين الذين يهاجمون السفن التجارية، ونزع فتيل ما يشكل الآن تهديدا خطيرا للغاية ــ على حد قولهم ــ على التجارة العالمية. وكان الأحرى بهذه الغرفة التجارية ايضا أن توجه نداءها وضغوطها إلى إسرائيل لوقف القتال ورفع الحصار عن قطاع غزة وإنهاء الأزمة فى باب المندب والبحر الأحمر من أساسها.
وقد قررت ماليزيا عدم السماح للسفن الإسرائيلية بالمرور أو الرسو فى موانيها البحرية إلى أن توقف إسرائيل حربها على قطاع غزة ولا تعيق وصول المساعدات الإنسانية الكافية إلى الفلسطينيين فى القطاع.
يعد باب المندب أحد أهم الممرات الملاحية فى العالم لشحنات السلع المنقولة بحرا، خاصة البترول والغاز المسال من الخليج العربى إلى البحر المتوسط ومن البحر الأحمر إلى الدول الآسيوية. وقد مر به خلال النصف الأول من عام 2023 نحو 12% من إجمالى تجارة البترول، ونحو 8% من إجمالى تجارة الغاز المسال، حيث مرت بالبحر الأحمر وقناة السويس وخط أنابيب سوميد، وبلغ ما مر بباب المندب خلال 11 شهرا من عام 2023 نحو 8,7 مليون برميل بترول يوميا، بينما كانت نحو 6,6 مليون برميل يوميا عام 2022. كما يمر به ما بين ١٢ % و ١٥% من إجمالى التجارة العالمية سنويا.
هذا ولم تتأثر حركة مرور السفن فى قناة السويس فى البداية نظرا لاقتصار التوقف عن دخول البحر الأحمر على السفن المتجهة من وإلى إسرائيل، فقد ذكر رئيس هيئة قناة السويس أنه ما بين الفترة من 19 نوفمبر إلى 14 ديسمبر 2023 حولت نحو 55 سفينة اتجاهها إلى رأس الرجاء الصالح، بينما مر فى القناة فى نفس الفترة نحو 2128 سفينة. وكان ذلك قبل إعلان عدة شركات عالمية كبيرة تغيير مسارها إلى رأس الرجاء الصالح لكن من المهم الاشارة إلى أن بعض الخطوط الملاحية الكبرى مثل شركة ميرسك اعلنت قبل أيام قليلة عودتها للعمل فى البحر الاحمر. ومن ثم، فإنه إذا استمر هذا الوضع طويلا فإنه سيكون له تأثير مباشر وواضح على المرور فى قناة السويس وخط أنابيب سوميد. وقد انخفضت الملاحة وعدد السفن فى ميناء إيلات الإسرائيلى لأكثر من 80% وارتفعت أسعار البترول والغاز بنسبة تزيد على 2,5% نتيجة زيادة مدة وتكاليف الشحن والتأمين وهو ما يمثل ضغطا على الدول الأوروبية وعلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لن يكون للتحالف الدولى لتأمين الملاحة فى المنطقة تأثير كبير.
إن التوجه العملى والفعال هو الضغط على إسرائيل لوقف الحرب وسحب قواتها ورفع الحصار عن غزة من أجل العمل على عودة الأمن والاستقرار للمنطقة بالعمل الجاد على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة فى الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية.