الحلفاء بعد أميركا يبحثون عن خطة بديلة

كتب فيليب إتش. غوردون ومارا كارلين, في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية:
لقد ولَّت الأيام التي كان فيها الحلفاء قادرين على الاعتماد على الولايات المتحدة للحفاظ على النظام العالمي.
لقد أثبت العام الأول من ولاية ترامب الرئاسية الثانية، بما يتطلّب المزيد من الأدلة، أن الأيام التي كان يمكن للحلفاء فيها الاعتماد على الولايات المتحدة في الحفاظ على النظام العالمي قد ولّت. فعلى مدى ثمانين عاماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان كل رئيس أميركي، باستثناء دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، ملتزماً إلى حدّ ما بالدفاع عن مجموعة من الحلفاء المقربين، وردع أي اعتداء عليهم، ودعم حرية الملاحة والتجارة، والمؤسسات والقواعد والقوانين الدولية.
ورغم أن الرؤساء الأميركيين لم يكونوا دائماً متسقين في سعيهم لتحقيق هذه الأهداف، فإنهم جميعاً أقرّوا بمبدأ أساسي مفاده أن العالم سيكون مكاناً أكثر أماناً وأفضل حالاً، بما في ذلك للأميركيين، إذا كرّست الولايات المتحدة موارد كبيرة لتعزيز هذه الأهداف. أما في ظل ولاية ترامب الثانية، فلم يعد هذا هو الحال.
إن تخلي ترامب عن السياسة الخارجية الأميركية التقليدية له تداعيات عميقة على النظام العالمي المتغير، وعلى جميع الدول التي اعتمدت اعتماداً كبيراً على الولايات المتحدة لعقود. فالحقيقة هي أنهم لا يملكون خطة بديلة واضحة. فالعديد من أقرب حلفاء واشنطن ليسوا مستعدين للتعامل مع عالم لم يعد بإمكانهم فيه الاعتماد على الولايات المتحدة لحمايتهم، فضلاً عن عالم قد تصبح فيه الولايات المتحدة خصماً لهم. وقد بدأوا يدركون، على مضض، مدى التغير الذي يشهده العالم، ويدركون حاجتهم إلى الاستعداد. لكن سنوات من التبعية، والانقسامات الداخلية والإقليمية العميقة، وتفضيل إنفاق الأموال على الاحتياجات الاجتماعية على الدفاع، تركتهم بلا خيارات عملية على المدى القريب.
راهناً، يكتفي معظم حلفاء الولايات المتحدة بكسب الوقت، ويجهدون للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الدعم الأميركي، بينما يدرسون خطواتهم التالية. يمدحون ترامب بشكل مبالغ فيه، ويقدمون له الهدايا، ويستضيفونه في مناسبات باذخة، ويتعهدون بزيادة الإنفاق الدفاعي، ويقبلون اتفاقيات تجارية غير متوازنة، ويعدون (دون أن يقدموا بالضرورة) باستثمارات ضخمة في الولايات المتحدة، ويصرون على استمرار تحالفاتهم معها. ويفعلون كل ذلك على أمل أن يُستبدل، كما حدث بعد ولاية ترامب الأولى، برئيس أكثر التزاماً بالحفاظ على الدور العالمي التقليدي لواشنطن.
لكن هذا السعي أقرب إلى التمني وضرب في الرمل. فالرئيس ترامب باقٍ في منصبه لنحو ثلاث سنوات أخرى، وهي مدة كافية لتدهور نظام التحالفات أكثر، أو لاستغلال الخصوم الفراغ الذي تخلفه الولايات المتحدة. وأولئك الذين يؤمنون بالتحالفات والقواعد والأعراف والمؤسسات العالمية، وبالمصلحة الأميركية في الحفاظ على الشراكات، يمكنهم أن يأملوا ألا يكون نهج ترامب دائماً، وأن يتصرفوا وفق ذلك. لكن هذا قد يكون غير حكيم. فترامب يمثل المواقف الأميركية تجاه السياسة الخارجية بقدر ما يشكلها، والتدخلات العديدة الفاشلة في الخارج، وعجز الميزانية المتزايد، والديون المتراكمة، والرغبة في التركيز على الشؤون الداخلية، كل ذلك جعل الأميركيين من مختلف الأطياف السياسية أكثر تردداً في تحمل أعباء القيادة العالمية مما كانوا عليه قبل الحرب العالمية الثانية. قد لا يملك حلفاء الولايات المتحدة خطة بديلة الآن، لكن من الأفضل لهم أن يبدأوا في تطوير واحدة بسرعة.
اللعب لكسب الوقت
خلال ولاية ترامب الأولى، تراجعت التزامات الولايات المتحدة بدعم شبكة تحالفاتها العالمية، لكنها لم تنقطع عنه تماماً. ويعود ذلك جزئياً إلى حداثة عهد ترامب بالمنصب، وتحذيره من تصرفاته على الأقل، وعدم استعداده التام لإحداث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية، وأيضاً إلى أنه عيّن في إدارته أغلبية من أنصار السياسة الخارجية والدفاعية التقليدية. فكبار مستشاريه في السياسة الخارجية يؤمنون بضرورة انخراط الولايات المتحدة بفعالية على الصعيد العالمي، وأنها مستفيدة بشكل كبير من النظام السياسي والأمني والاقتصادي القائم منذ أربعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من شعاره “أميركا أولاً” ونزعاته الأكثر راديكالية، تردد ترامب طوال معظم ولايته الأولى في اتخاذ خطوات من شأنها تهديد القيادة العالمية للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، فكر في سحب القوات الأميركية من ألمانيا والعراق واليابان وكوريا الجنوبية وسوريا، لكنه لم يفعل ذلك قط، وغالباً لمعارضة كبار مساعديه السياسيين.
تختلف إدارة ترامب الثانية. فهذه المرة، غاب ما يُسمّى “تيار العولمة”، وأصبح الرئيس محاطاً بأشخاص يرون معظم التزامات الولايات المتحدة الخارجية عبئاً بلا جدوى. فقد خدم كل من نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد في الجيش الأميركي في العراق، وخرجوا من تلك التجربة باستياء عميق من نخب السياسة الخارجية الأميركية وتدخلاتها الخارجية. أما مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية ماركو روبيو، فقد كان، حين كان عضواً في مجلس الشيوخ، من أشد المؤيدين للتصدي لروسيا والدفاع عن حقوق الإنسان وتقديم المساعدات الخارجية، لكنه يبدو اليوم كتم تلك القناعات للحفاظ على مكانته وثقة ترامب وقاعدته الشعبية.
وببساطة، يبدو أن رؤية الإدارة الحالية للعالم متأثرة بشكل كبير بمعتقدات ترامب الراسخة: أن التحالفات عبء لا داعي له، والتعامل مع الأنظمة الاستبدادية أسهل من التعامل مع الأنظمة الديمقراطية، ونظام التجارة المفتوحة غير عادل، وأن الولايات المتحدة قادرة على الدفاع عن نفسها بالقدر الكافي دون مساعدة من دول أخرى، وأن للقوى العظمى الحق في الهيمنة على جيرانها الأصغر حجماً، بل وحتى ضم أراضٍ جديدة حين يكون ذلك في مصلحتها. لقد ولى زمن العالم ما بعد الحرب، الذي بُني حول حلفاء ديمقراطيين يعتمدون على الولايات المتحدة في الأمن والدفاع.
ويتضح هذا التوجه في نهج الإدارة تجاه أوروبا وحلف شمال الأطلسي، في حين أبدى الرؤساء السابقون التزاماً راسخاً بالمادة 5 لحلف “الناتو”، التي تنص على أن أي هجوم مسلح على أي عضو يعتبر هجوماً على جميع الأعضاء. أما ترامب فقد أشار إلى أن هذا الضمان لا يسري إلا إذا “سدّد الحلفاء التزاماتهم”، أي ساهموا بشكل أكبر في الدفاع الجماعي. وفي مطلع ولايته الثانية، أعرب عن نيته السيطرة على غرينلاند، إقليم تابع للدنمارك الحليفة في “الناتو”، وألمح إلى إمكانية قيام الولايات المتحدة بذلك بالقوة، مما أثار احتمال استخدام الجيش الأميركي ليس لحماية أحد أعضاء “الناتو”، بل لمهاجمته.
نائب الرئيس جيه دي فانس يعد أكثر تشككاً في الدور الأميركي التقليدي في الأمن الأوروبي، إن جاز التعبير. ففي عام 2022، قال إنه “لا يكترث حقاً بما سيحدث لأوكرانيا، سواء كان ذلك إيجابياً أم سلبياً”. وفي شباط/فبراير الماضي، أشار أمام “مؤتمر ميونيخ للأمن” إلى أنه أكثر قلقاً بشأن التهديدات “الداخلية” في أوروبا مقارنة بتلك التي تشكلها الصين أو روسيا. وفي وقت لاحق من نفس الشهر، وصف الدنمارك بأنها “ليست حليفاً جيداً”، وألمح إلى أن ترامب قد “يبدي اهتماماً أكبر بغرينلاند”، وهو “لا يُبالِي بصراخ الأوروبيين ضدنا”. وفي محادثة عبر تطبيق “سيغنال” مع كبار مسؤولي الإدارة في آذار/مارس الماضي، اشتكى فانس من “إنقاذ أوروبا مجدداً”.
كل هذه المواقف عكستها السياسة الأميركية في السنة الأولى من إدارة ترامب، التي تبنّت إلى حد كبير الروايات الروسية حول أسباب الحرب في أوكرانيا، ولم تقدّم أي مساعدة عسكرية مباشرة لكييف تتجاوز ما كان مخططاً له مسبقاً، ورفضت تقديم ضمان أمني حقيقي لأوكرانيا. وعندما أطلقت روسيا طائرات مسيرة على بولندا في أيلول/سبتمبر الماضي، قلّل ترامب من شأن الحادث ووصفه بأنه “خطأ محتمل”. وعندما انتهكت روسيا المجال الجوي الروماني والإستوني في الشهر نفسه، وقفت الولايات المتحدة إلى حد كبير موقف المتفرج أمام الرد العسكري لحلف “الناتو”. كما أعلنت إدارة ترامب أنها ستتوقف عن تقديم المساعدات العسكرية للدول المجاورة لروسيا، وبدأت في تشرين الأول/أكتوبر بسحب بعض القوات الإضافية التي أرسلتها إدارة بايدن لتعزيز الدفاع عن أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويواجه شركاء الولايات المتحدة في آسيا تحديات كبيرة أيضاً. فعلى مدى أكثر من عقد، روّجت واشنطن لنيتها “التحول نحو آسيا”، لكن يبدو الآن أن أولوية الولايات المتحدة هي وطنها وبقية دول نصف الكرة الغربي. ركّزت استراتيجية الدفاع الوطني الأولى لترامب، التي نُشرت عام 2018، على مواجهة روسيا والصين. واعتبرت استراتيجية إدارة بايدن الصين “التحدي المحوري” للولايات المتحدة، أي التهديد الرئيسي الذي ينبغي على الجيش الأميركي تطوير قوته لمواجهته. لكن يبدو أن المسؤولين في إدارة ترامب الثانية يشككون في هذه الأولوية، ويعطون التركيز بدلاً من ذلك لأمن الحدود، ومكافحة المخدرات، والدفاع الصاروخي الوطني، إلى جانب زيادة تقاسم الأعباء بين حلفاء الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن ترامب حافظ بشكل عام على شبكة الشراكات العسكرية الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن الحلفاء هناك يخشون أن يخضع دعمه لمصالحهم الأمنية لرغبته في تحسين العلاقات مع الصين وربما إبرام اتفاقية تجارية ضخمة. ففي ولايته الأولى، ربط ترامب التزامات الولايات المتحدة الأمنية تجاه اليابان وكوريا الجنوبية باستعدادهما لدفع المزيد مقابل دفاعهما، رغم أن الولايات المتحدة حافظت على المعاهدات الدفاعية مع كلا البلدين. كما أوقف شحنات الأسلحة الأميركية إلى تايوان وقلّص التفاعل الدبلوماسي معها، ورفض منح رئيس تايوان الإذن بالمرور عبر الولايات المتحدة في طريقه إلى أميركا اللاتينية، وبدأ بالسماح للصين بشراء أشباه موصلات متقدمة، على ما يبدو لتشجيع ظروف علاقة ناجحة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ.
وفي حين أكد الرئيس الأميركي جو بايدن مراراً أن الولايات المتحدة ستساعد على الدفاع عن تايوان في حال وقوع غزو صيني، كان ترامب متردداً في هذا الشأن. بل إن وزير التجارة هوارد لوتنيك ذهب إلى حد التلميح بأن الولايات المتحدة لن تحمي تايوان إلا إذا وافقت تايبيه على نقل نصف قدرتها على تصنيع الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى الولايات المتحدة. وليس من الصعب تصور رفض ترامب الدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في حال نشوب صراع.
ويبدو أن ترامب غير راغب في إنفاق الموارد الأميركية للحفاظ على النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. صحيح أنه دعم “إسرائيل” بقوة، وأصدر في أيلول/سبتمبر الماضي أمراً تنفيذياً يمنح قطر التزاماً دفاعياً رسمياً، لكن ترامب يخشى الانجرار إلى الحرب أكثر من حرصه على الدفاع عن شركاء الولايات المتحدة، أو مكافحة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وحماية مصالح الأمن القومي. ومن الواضح أنه يقدّر علاقاته مع قادة الخليج، لكن هذا لا يعني أنه سيدافع عنهم أكثر مما فعل في عام 2019، حين لم يُحرّك ساكناً بعد أن هاجمت إيران مصفاة نفط سعودية رئيسية وناقِلات نفط قبالة سواحل عُمان والإمارات العربية المتحدة.
لطالما كان ترامب مستعداً لدعم حلفائه بالقوة العسكرية فقط عندما يكون خطر التصعيد منخفضاً، لا سيما مع القوى العظمى. وخلال الحرب بين “إسرائيل” وإيران التي استمرت 12 يوماً في حزيران/يونيو الماضي، شن ترامب ضربات على مواقع عسكرية ونووية إيرانية بعد أن هاجمت “إسرائيل” الدفاعات الجوية الإيرانية. كما أذن بشن غارات جوية على اليمن، لكنه تراجع لاحقاً عندما بدأت التكاليف تتصاعد، واتضح له أن الأوروبيين هم المستفيدون الرئيسيون من العملية. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، بدأ الجيش الأميركي بتدمير قوارب قال إنها كانت تحمل مخدرات من فنزويلا، وهي دولة لا تملك القدرة على الردّ بفعالية على الولايات المتحدة. كما أن رغبة ترامب في المخاطرة بالمواجهة مع القوى الكبرى محدودة للغاية، كما يتضح من تردده في مواجهة روسيا بشأن أوكرانيا.
التشبُّث بالحياة بقُوَّة
على الرغم من تزايد خطر انسحاب الولايات المتحدة، الذي ألمحت إليه إدارة ترامب الأولى، فإن معظم حلفاء الولايات المتحدة لم يستعدوا له بشكل فعلي. فقد ارتفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي بشكل طفيف بعد الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014، لكن لم يُحرز تقدم يُذكر في تطوير “ركيزة أوروبية” داخل حلف “الناتو”، والتي من شأنها تمكين الجيوش الأوروبية من العمل باستقلالية أكبر عن الولايات المتحدة. وبينما دعت فرنسا منذ فترة طويلة إلى “استقلال استراتيجي” أوروبي، رفضت دول أخرى في القارة الفكرة إما لعدم جدواها أو لتكلفتها الباهظة.
أما شركاء الولايات المتحدة في آسيا والشرق الأوسط، فقد أمضوا العقد الماضي يركزون على الحفاظ على تحالفاتهم مع الولايات المتحدة بدلاً من استبدالها، وهو خيار منطقي بالنظر إلى الموارد الكبيرة والإرادة السياسية اللازمة لتطوير بدائل للقيادة الأميركية. لكن الآن، في مواجهة خطر تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي أو رفضها الدفاع عن شركائها، باتت الخيارات المتاحة أمامهم محدودة.
حتى الآن في ولاية ترامب الثانية، استمر معظم حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في التشبث بدعمها، أحياناً بدافع اليأس. فعلى سبيل المثال، بذل أعضاء حلف “الناتو” قصارى جهدهم لإرضاء ترامب بالموافقة على زيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، وهو إنجاز كبير حتى وإن تحقق بأساليب ملتوية، حيث اُحتُسب الإنفاق على البنية التحتية ضمن نسبة الـ 5% المطلوبة. ولجأ العديد من القادة إلى أساليب التملق لإبقاء ترامب على ولائه. وتجلى هذا النهج بوضوح في رسالة الأمين العام لحلف “الناتو” مارك روته، الذي أرسل في حزيران/يونيو الماضي خطاباً يثني فيه على دبلوماسية ترامب في الشرق الأوسط ويشيد بجهوده في حث الدول الأوروبية على زيادة إنفاقها الدفاعي، وكتب: “ستدفع أوروبا بكرم، كما ينبغي، وسيكون ذلك انتصاراً لك”.
وبالمثل، في أول لقاءاتهما مع ترامب، قالت رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي إنها سترشحه لجائزة نوبل للسلام، بينما قال الرئيس الكوري الجنوبي لي جاي ميونغ إن ترامب “الشخص الوحيد القادر على إحراز تقدّم” نحو السلام بين الكوريتين الشمالية والجنوبية.
استخدم الحلفاء أيضاً الاتفاقيات الاقتصادية في محاولة للحفاظ على التزام الولايات المتحدة بأمنهم. فقد وافقت اليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي على اتفاقيات تجارية غير مواتية مع واشنطن، حيث قبلوا زيادات كبيرة في الرسوم الجمركية الأميركية، وتعهدوا باستثمارات ضخمة في الاقتصاد الأميركي وشراء صادرات الطاقة أو السلع العسكرية الأميركية. صُممت هذه الاتفاقيات جزئياً لتجنّب حرب تجارية، لكنها كانت مدفوعة أيضاً بمخاوف من أن يؤدي نزاع تجاري كبير مع الولايات المتحدة إلى تقويض الشراكة الأمنية الوثيقة مع واشنطن التي يعتمد عليها جميع هؤلاء الحلفاء. وكما أقر رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا في أيلول/سبتمبر الماضي، فإن “تصعيد التوترات مع حليف رئيسي بشأن الرسوم الجمركية، في حين أن حدودنا الشرقية مهددة، كان سيمثل مخاطرة غير حكيمة”. وعلى هذا تضاءلت أي فرصة لأن يتصدّى الاتحاد الأوروبي للرسوم الجمركية الأميركية، كما فعلت الصين، بسبب “مخاوف من أن يقطع ترامب إمدادات الأسلحة عن أوكرانيا، أو يسحب القوات من أوروبا، أو حتى ينسحب من حلف الناتو”، بحسب صحيفة “فايننشال تايمز”.
وبالمثل في الشرق الأوسط، سعت دول الخليج إلى استمالة ترامب للحفاظ على اهتمامه بأمنها من خلال التودد والتعهّدات باستثمار مئات المليارات من الدولارات في الولايات المتحدة. بل إن قطر أهدت ترامب طائرة لاستخدامه الشخصي، ووقعت على اتفاقية “تبادل اقتصادي” غامضة بقيمة 1.2 تريليون دولار، وساعدت ترامب في مساعيه لوقف إطلاق النار في غزة، وهو ما كُوفئ عليه في أيلول/سبتمبر 2025 بوعد أميركي بالتعامل مع أي هجوم على قطر باعتباره تهديداً لأمن الولايات المتحدة. كما وافقت دول خليجية أخرى، من بينها السعودية والإمارات، على صفقات عقارية وصفقات عملات مشفرة مع أفراد من عائلة ترامب وعائلات مسؤولين كبار آخرين في إدارته، على أمل أن يساعد ذلك في الحفاظ على دعم الإدارة الأميركية لها.
تملُّق غير ناجع
لا يُلام حلفاء الولايات المتحدة على سعيهم لاسترضاء ترامب، فليس لديهم بدائل جيدة تُذكر للاعتماد على الولايات المتحدة في أمنهم وازدهارهم. لكن عليهم ألا يتوهموا، لأن ترامب سياسي انتهازي يُعرّف المصالح الوطنية تعريفاً ضيقاً، وولاؤه لنفسه فقط. وقد تُسهم المجاملات والوعود الاستثمارية البراقة في تعزيز اللقاءات الإيجابية أو الاتفاقات النظرية، لكنها لا تضمن بأي حال من الأحوال دعماً “ترامبياً” دائماً.
ولم يعد من المستبعد تخيّل عالم ينظر فيه الحلفاء السابقون إلى الولايات المتحدة ليس فقط على أنها غير جديرة بالثقة، بل أيضاً على أنها غير شعبية، بل وحتى معادية. لقد انهارت الثقة بالولايات المتحدة. ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث في حزيران/يونيو الماضي وشمل 24 دولة، أفادت أغلبية كبيرة بأنها “لا تثق” في قدرة ترامب على “اتخاذ القرار الصائب فيما يتعلّق بالشؤون العالمية”. وفي بداية ولاية ترامب الثانية، صرح المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز بأنّه من الواضح أن واشنطن “غير مبالية إلى حد كبير بمصير أوروبا”. وليس من الصعب تصور قادة العالم الآخرين وهم يستخلصون استنتاجات مماثلة حول نظرة الولايات المتحدة إلى مناطقهم.
حالياً، يشعر العديد من حلفاء الولايات المتحدة بالتهديد من الصين وروسيا، مما يجعل من غير المرجح أن يلجأوا إلى التحالف مع بكين أو موسكو لموازنة نفوذ الولايات المتحدة. ومن المرجح أيضاً ألا ينضم معظم الشركاء الآسيويين والأوروبيين إلى تكتلات جيوسياسية بديلة مثل مجموعة “البريكس”، التي تضم تكتلاً من عشرة دول، سُمّيت اختصاراً على اسم أعضائها الخمسة الأوائل: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، نظراً لخلافاتهم مع تلك الدول ورغبتهم في تجنّب أزمة كبيرة مع واشنطن. لكن استراتيجية “أميركا أولاً” إذا طُبّقت بشكل كامل قد تُجبِر حلفاء الولايات المتحدة على النأي بأنفسهم عنها إلى درجة كانت شبه مستحيلة خلال ثمانين عاماً الماضية.
وبينما تظهر البدائل المتاحة للاعتماد على الولايات المتحدة تحديات كبيرة، قد لا يجد شركاء الولايات المتحدة خياراً سوى السعي إليها. فالعديد منهم يعملون بالفعل على تطوير جيوش أكثر استقلالية وكفاءة، وزيادة الإنفاق الدفاعي، والبدء في الاندماج مع شركاء آخرين. فعلى سبيل المثال، لدى الاتحاد الأوروبي عدد من المبادرات التي ستزيد الإنفاق الدفاعي والتكامل العسكري بحلول عام 2030، وقد تعهدت اليابان برفع إنفاقها الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول آذار/مارس العام المقبل.
وإذا أُديرت هذه الجهود بشكل جيد، فقد تُفضي إلى شراكات أكثر توازناً وتكافؤاً مع الولايات المتحدة. لكن من غير المرجح أن تُحسن هذه الجهود أمن آسيا وأوروبا على المدى القريب. فليس بوسع حلفاء الولايات المتحدة القيام بأي شيء واقعي لتعويض فقدان التزام دفاعي موثوق من جانب واشنطن. وإذا ما تراجعت رغبة الولايات المتحدة في حماية حلفائها، فقد يتراجع هؤلاء الحلفاء عن مساعدتها. ولم يمض وقت طويل على استعداد العديد من الشركاء الآسيويين والأوروبيين والشرق أوسطيين لإرسال قواتهم للقتال والموت مع القوات الأميركية انطلاقاً من ولائهم لواشنطن، لكن تلك الأيام قد ولّت.
ومن المرجح أن يؤدي تعزيز الاعتماد على الذات إلى دفع الحلفاء لتطوير صناعات دفاعية أقل اعتماداً على الولايات المتحدة. ومع زيادة إنفاقهم على الدفاع، اتفق أعضاء الاتحاد الأوروبي على أن التمويل الرئيسي لا يمكن إنفاقه إلا داخل الاتحاد الأوروبي، أو في دول شريكة محددة مثل النرويج، وليس في الولايات المتحدة. وتخطط ألمانيا لإنفاق الجزء الأكبر من مشتريات الأسلحة، التي تبلغ حوالي 95 مليار دولار، في أوروبا، على أن يذهب 8% فقط منها إلى الموردين الأميركيين. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الدنمارك، المستاءة من تهديدات ترامب ضد غرينلاند، قررت مؤخراً إجراء أكبر صفقة شراء عسكرية في تاريخها بقيمة تزيد عن 9 مليارات دولار لأنظمة الدفاع الجوي من شركات أوروبية، وليس أميركية.
قد يسعى بعض الحلفاء أيضاً إلى تطوير أسلحتهم النووية الخاصة. فعلى سبيل المثال، يرغب أكثر من 70% من الكوريين الجنوبيين في أن تمتلك حكومتهم أسلحة نووية، وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة “غالوب كوريا” العام الماضي. ورغم معارضة غالبية الشعب الياباني للأسلحة النووية، أصبح المزيد منهم أكثر تقبّلاً لفكرة تطوير بلادهم لها. وفي أوروبا، دفعت الشكوك حول قدرة الردع المُوسّع الأميركية بعض الدول، مثل فرنسا والمملكة المتحدة، إلى طرح احتمال تعزيز الدرع النووي. وفي آذار/مارس الماضي، قال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك: “يجب على بولندا السعي لامتلاك أحدث القدرات، بما في ذلك الأسلحة النووية والأسلحة غير التقليدية الحديثة”. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، بعد وقت قصير من شن “إسرائيل” غارات جوية على قطر – وهو هجوم لم تمنعه الولايات المتحدة – وقعت السعودية اتفاقية دفاعية مع باكستان، قالت بموجبها إن السعودية قد تُتيح استخدام قدراتها النووية الرادعة عند الحاجة.
وسيكون استبدال المظلة النووية الأميركية أمراً صعباً سياسياً، ومليئاً بالتحديات التقنية، ومكلّفاً للغاية. بل قد لا يكون فعّالاً في ردع الخصوم، لأن القوات النووية الصغيرة غير الأميركية ستطغى عليها الترسانات الأكبر بكثير التي تمتلكها الصين وروسيا، وهما الدولتان الأكثر احتمالاً للعدوان. ومع مرور الوقت، سيتعين على شركاء الولايات المتحدة أن يأخذوا على محمل الجد احتمال حاجتهم إلى قوات نووية خاصة بهم، لأن الولايات المتحدة قد ترفض الدفاع عنهم.
ولا شك أن تراجع القيادة والمصداقية الأميركية له تأثير كبير على النظام الاقتصادي العالمي، إذ غالباً ما فضّل حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا قبول اتفاقيات تجارية أحادية الجانب بدلاً من توحيد صفوفهم ضد واشنطن، لكن حساباتهم قد تتغير. فعندما سحبت الولايات المتحدة خلال ولاية ترامب الأولى عضويتها من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي تكتل تجاري رئيسي بقيادة واشنطن وصُمم جزئياً لموازنة نفوذ الصين، التزمت أستراليا وكندا واليابان بالاتفاقية. لكن بعد سنوات قليلة، انضمت العديد من هذه الدول إلى الصين في اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، التي تُعد الآن أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم، ولا تشمل الولايات المتحدة. وكلما قل اعتماد شركاء الولايات المتحدة عليها في مجال الأمن، كلما أصبح التعاون فيما بينهم، أو مع القوى العظمى الأخرى، أسهل لموازنة السياسات الاقتصادية التي يعتبرونها معادية لواشنطن.
مع انهيار النظام القديم، قد يصبح العالم مكاناً أكثر رعباً. وحتى لو وضع الحلفاء خطة بديلة، فقد لا يتمكنون بمفردهم من مواجهة العدوان المتزايد. وهذه ليست المرة الأولى التي يواجهون فيها سياسة “أميركا أولاً”. فقد انتهج كثيرون في واشنطن خلال العقود الأولى من القرن الماضي نهجاً مشابهاً، من خلال رفع التعريفات الجمركية، والنفور من الالتزامات تجاه التحالفات والحروب الخارجية، والرغبة في استرضاء القوى الاستبدادية بدلاً من مواجهتها، وهو ما مهد الطريق للعدوان العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث لم يتمكن حلفاء أميركا من فعل شيء حيال ذلك.
لا أحد يرغب في رؤية نهاية نظام التحالفات الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي رغم كل نقاط ضعفه وتكاليفه واختلالاته، خدم واشنطن وحلفاءها على مدى أجيال. لكن لا ينبغي لأحد أن يعوّل على استمراره أيضاً. فإدارة ترامب الثانية ليست ملتزمة بالدفاع عن هذا النظام، ولا يوجد ما يضمن التزام الرئيس القادم بذلك. ولا يعني هذا أن التعاون مع واشنطن سيكون مستحيلاً، فستبقى الولايات المتحدة شريكاً مهماً، وإن كان ربما أكثر ارتباطاً بالمعاملات، لسنوات قادمة. لكن هذا يعني أن الحلفاء لم يعودوا قادرين على الاعتماد على الولايات المتحدة لتخصيص موارد كبيرة للدفاع عنهم أو عن النظام العالمي. ينبغي أن تكون الخطة الأساسية للحلفاء هي بذل قصارى جهدهم للحفاظ على أكبر قدر ممكن من التعاون العملي، لكن سيكون من الخطير وغير المسؤول عدم وجود خطة بديلة.




