الحقيقة في مرمى النيران

كتب علي قباجة, في الخليج:
لا يمكن لأي ضمير حي أن يقرأ خبر مقتل ستة صحفيين فلسطينيين في غزة دون أن يشعر بالحزن العميق، فمنذ السابع من أكتوبر 2023، قُتِل أكثر من 240 صحفياً فلسطينياً، ما يُشكّل انتهاكاً صارخاً للالتزامات الدولية الواردة في المادة (79) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الذي تم اعتماده في العام 1977، التي تنصّ على ضرورة حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة بوصفهم أشخاصاً مدنيين، شريطة عدم قيامهم بأعمال مباشرة في العمليات القتالية.
قتل الصحفيين يُعدّ حلقة جديدة في مسار متصاعد من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، فهم لم يحملوا سلاحاً، ولم يقودوا دبابة، بل حملوا كاميرات وأقلاماً، أدواتهم الوحيدة في معركة كشف الحقيقة، التي لم يرقْ لحكومة نتنياهو كشفها، لأن تلك الحكومة المتطرفة تنتهج نمطاً من الهندسة المعلوماتية القسرية، للتحكم في تدفق المعلومات وحجب الحقائق عن الرأي العام الدولي، وهي بذلك تخوض حرباً مزدوجة، تتمثّل في قتل الضحايا من جانب، وإسكات الشهود وطمس الأدلة وتقويض أسس العدالة الدولية من جانب آخر، ما يُعدّ خرقاً لإعلان اليونسكو بشأن تعزيز حرية الصحافة.
الصحافة في أوقات الأزمات هي المرآة التي تعكس للعالم ما يجري على الأرض، لذا فإن حماية الصحفيين ليست خياراً أخلاقياً فحسب، وإنما التزام قانوني، كما أن الدور الذي تضطلع به الصحافة في مناطق النزاع ليس مسألة داخلية تخضع لاعتبارات الأمن القومي كما تبرر السلطات الإسرائيلية، بل ركيزة أساسية لمبدأ الشفافية والمساءلة في العلاقات الدولية، والمساس بها يُشكّل تهديداً لمبدأ عدم الإفلات من العقاب.
استهداف الإعلاميين، وتدمير البنية التحتية للحياة، وتجويع المدنيين، ليست أحداثاً معزولة، بل حلقات في سلسلة جرائم حرب تُرتكب دون تمييز بين طفل جائع، ومريض على سرير المستشفى، وصحفي يلتقط صورة، فإسرائيل تسعى إلى طمس كل أثر للحقيقة، وإبقاء غزة في الظلام، وفي ظل هذا المشهد، تصبح حماية الصحافة في غزة اختباراً لمصداقية النظام الدولي برمته، فإذا قبل بالممارسات الإسرائيلية فإن ذلك لن يكون فشلاً في حماية الصحفيين، بل سيكون تفكيكاً تدريجياً للنظم القانونية والقيم الأخلاقية التي تأسس عليها النظام الدولي بعد عام 1945.
ما تنتظره غزة هو تفعيل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي، ودعم إنشاء آليات تحقيق مستقلة بما في ذلك اللجوء إلى المادة (13) من نظام روما لإحالة الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن، وضمان حماية الصحفيين الفلسطينيين الذين يخوضون بصدورهم العارية معركة الذاكرة ضد النسيان، فالحرب التي يخوضها نتنياهو وحزبه ليست ضد غزة فحسب، بل ضد الحقيقة ذاتها، وإن لم تُحمَ الحقيقة، فلن ينجو أحد من الأكاذيب التي ستُبنى على أنقاضها.