الحريديم.. والتجنيد الإجباري
كتبت د. ندى أحمد جابر في صحيفة الخليج.
الحريديم هم جماعة اليهود المتدينين، ويُعتبرون كالأصوليين حيث يطبقون الطقوس الدينية الموروثة ويعيشون حياتهم وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية المتشددة. انتشرت في الآونة الأخيرة صورهم على صفحات التواصل الاجتماعي وهم يُجَرُّون بالقوة للتجنيد الإجباري في الجيش.. هذه المشاهد فتحت الباب للكثيرين للبحث في تاريخهم وأسباب عُزوفهم عن التجنيد ورفضهم الانصياع لقوانين الدولة الإسرائيلية.
كانت في السابق ملابسهم الشهيرة بذلك المعطف الأسود والقبعة السوداء والضفيرتين المتدليتين على جانبي الوجه مثار تساؤل الكثيرين، وربما كان نمط الحياة التي يعيشونها واختيارهم البقاء على الهامش وتمسكهم بالتقاليد الموروثة مثل النقاب للنساء، وكثرة الإنجاب، ورفض كل الأجهزة المتطورة الحديثة واعتبارها حراماً، وطبعاً رفض الفكر الصهيوني واعتباره منافياً للشريعة اليهودية. ورفضهم حتى لقيام الدولة اليهودية قبل ظهور المسيح المنتظر..
ربما كانت كل تلك المعتقدات تعتبر أصولية متطرفة، لكن الصور التي نُشرت وفيها الكثير من العُنف ضدهم وضد رفضهم للتجنيد الإجباري، خاصة بعد أن أظهرت حرب غزة الحاجة الماسة للجنود ورفض العلمانيين في الدولة الإسرائيلية لهذا التميّز الذي مُنح لهم بإعفائهم من الخدمة العسكرية.. كل ذلك الصراع ظهر إلى العَلن وأثار في «السوشيال ميديا» الأسئلة حولهم.. ومن هم؟
هم الأصوليون الذين يتبنّون التفاسير الأكثر غلواً في التراث الديني والتشدد في أداء العبادات والطقوس الدينية، كما أنهم يفضلون الانعزال حتى عن اليهود غير المتقيدين بحذافير التعاليم الدينية. معظمهم يبقى في المدارس الدينية حتى عمر الأربعين. وبالتالي هم لا يشاركون في القوى العاملة في المجتمع الإسرائيلي، وهو ما يفسر عيشهم في ظروف سيئة، رغم رفضهم للدولة التي يعتمدون عليها في دعمهم مادياً. ويَعتبرون المشاركة في الجيش أو النشاطات الاجتماعية الداخلية مثل الأدب الحديث، والرياضة، والموسيقى، والتلفاز كل ذلك خطيئة.
الحريدية ترفض العلمانيين ولا تعترف بيهوديتهم، وهو ما أوصل المجتمع الإسرائيلي في نهاية التسعينات إلى الفصل التام بين المجتمعين وتخصيص مناطق سكن معزولة للحريديم. كل هذه الأمور تجعل قراءة مستقبل المجتمع الإسرائيلي وهويته بين الدين والسياسة أمراً صعباً لأنها تجعل من إسرائيل دولة غير قادرة على أن تكون دولة يهودية ضمن المفهوم الديني، ولا أن تكون دولة علمانية وفق المفاهيم العلمانية. إنه صراع الدولة والهوية.. ولم تشهد إسرائيل أو الحركة الصهيونية أية محاولة لإنهاء هذا الصراع. هذا عدا العزلة الكبيرة بين الأصوليين والعلمانيين داخل الدولة وعدم الاختلاط.
لكن في الفترة الأخيرة ظهرت فئات منهم تؤيد الدولة وتتعاون معها باستثناء فئة (ناطوري كارتا) التي ما زالت ترفض التعاون مع الدولة وتعتبر الصهيونية هرطقة ووجودها منافياً للدين.. ويرفضون الخدمة في الجيش، ولقد عاملهم أول رئيس وزراء في إسرائيل معاملة خاصة بإعفائهم من الخدمة العسكرية. ومنهم فئة اعتبرت (متدينة معتدلة)؛ إذ وافقت على العمل في الدولة وشاركت في انتخابات الكنيست عام 1992 وفازت بأربعة مقاعد. لكنها في الوقت نفسه ترفض الصهيونية وترفض التجنيد وتعتبر وجودها في الكنيست فقط للحفاظ على حقوق الحريديم المتفرغين لدراسة الدين.
أما الفئة الثالثة ويسمون (الحريديم العصريون) فتسعى للعيش بطريقة عصرية مع الاحتفاظ بسمتها الدينية. لكنها عكس الحريديم السابقين تشارك في الحياة السياسية والعسكرية. وفي سبيل تشجيع دخولهم الجيش تطوعاً أنشأ الجيش الإسرائيلي عدة برامج دينية متكيفة مع أداء الخدمة العسكرية. مثل تشكيل الكتيبة (نيتسح يهودا) عام 1999 التي تضم اليهود الحريديم، وتعتمد (الطعام الحلال)، وممارسة طقوسهم الدينية دون الاختلاط مع الجنود غير المتدينين، ويعملون في المستوطنات.
يتطوع في هذه الفئة سنوياً 2000 متطوع.. لكن سرعان ما ظهرت مخاطر تسللهم إلى الجيش عام 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة.. حيث اعتبروا أن ما قام به الجيش معصية دينية، لذلك قرروا في السنوات التالية التمكن من الجيش عبر الفِرق العسكرية والتدرج في الرُتب الرفيعة، والسيطرة. وبرز كرههم للشعب الفلسطيني في تصرفاتهم الوحشية والإبادة.. وكان لتطرفهم هذا مُباركة خاصة وتَشجيع من الجيش الذي فتح لهم المجال للتوغل والترقي أكثر.
ظهرت نتيجة هذا التحول بعد سنوات، ففي يونيو/ حزيران عام 2021 نشبت مواجهة بين المستوطنين والفلسطينيين، وعندما هرعت قوات حرس الحدود لتفريق المواجهات تدخلت كتيبة (نيتسح يهودا) لدعم المستوطنين ضد الحرس، اعتُبرت الحادثة أول عصيان للجيش، حيث تَوضح أنهم لا يَرضخون لأوامر الجيش ولا يجدون مُشكلة حتى في معاقبة قادتهم (غير المتدينين).. وبمرور الوقت أصبح التيار متمكناً ما جعل المحللين يتحدثون عن (انتفاضة حريدية) داخل الجيش توشك أن تُغير تركيبته.
هذه المعطيات وردت في مقال نُشر في صحيفة هآرتس في 26 مايو/ أيار عام 2010. كتبها المحلل البروفسير في جامعة إسرائيل (يغيل ليفي) بعنوان (انتفاضة حريدية في الجيش) حذر فيها من موجة دينية تهدد تماسك الجيش وأكثر.. تهدد احتلاله، ورغم ذلك نجد أن حاجة إسرائيل إلى الجنود في حرب غزة تجعلهم يُجبرون الحريديم غير الراغبين بالعمل العسكري على التجنيد..
السؤال هنا إن كان المتطوع الحريدي الذي اختار التجنيد يهدد تماسك الجيش.. ماذا سيكون موقف الحريدي المُجبر على التجنيد؟
هل ستتحقق نبوءة الباحث (يغيل ليفي) بأن يحتلوا الجيش من الداخل؟