حلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و طريقه لغزو ناعم لجيرانه الاوروبيين عبر التحكم بامدادات الغاز و التدفئة المنزلية لملايين البيوت في القارة العجوز يتجسد بخط غاز نورد ستريم ٢ الذي قد يحقق لموسكو ارباحا سنوية قد تصل الى ١٥ مليار دولار سنويا، هذا الخط الذي يربط بين روسيا و المانيا بطول يمتد الى ١٢٣٠ كيلومترا في قاع بحر البلطيق لا تريده اميركا، بينما يستخدمه الكل الان ورقة ضغط و مساومة، فما اهميته، و ما علاقته بالحرب بين روسيا و اوكرانيا
نورد ستريم ٢ في سبيل الدفء في العمق
الغاز الطبيعي هو بوابة روسيا الى غزو اسواق الجار الاوروبي و حلم بوتين بتعزيز نفوذه في اوروبا القارة التي تستهلك سنويا نحو ٤٠٠ مليار متر مكعب منه، بالاضافة الى الانتاج المحلي فان شريان حياة الدفء و الطاقة يصل القارة العجوز عبر موردين كثيرين مثل النرويج و الجزائر و ليبيا و اذربيجان، لكن اهمها على الاطلاق هو الجار الشرقي روسيا اكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم برقم يصل الى نحو ٢٠٠ مليار متر مكعب سنويا، و بلغ في عام ٢٠٢٠ نحو ١٧٥ مليار متر مكعب صدرت الى اوروبا، اذ يوفر الروس نحو ٤٠ بالمائة من احتياجات الاوروبيين من الغاز.
المانيا هي الدولة الاولى اوروبيا من ناحية استهلاك الغاز الروسي
، فكيف سيغير غاز الروس شرايين و انسجة الجسد الاوروبي؟
يصل غاز روسيا الى اوروبا عن طريق مسارين، الاول هو خط نورد ستريم ١ الذي يمر عبر بحر البلطيق و يصل بين روسيا و المانيا، و يمتلك النسبة الاكبر في المشروع عملاق الطاقة الروسي (غاز بروم) الذي تمتلك فيه الحكومة نصيب الاسد، و هذا الخط دخل الخدمة عام ٢٠١٢، و المانيا هي اكبر مستهلك اوروبي للغاز الطبيعي و تعتمد على ما بين ٥٠ و ٧٥ بالمائة من استهلاكها على الغاز الروسي.
و اصبح نورد ستريم اطول انبوب في العالم يمتد تحت البحر بطول يتجاوز ١٢٠٠ كيلو متر لشحن ٥٥ مليار متر مكعب من الغاز الروسي الى اوروبا سنويا.
و يمر الغاز الروسي المتدفق الى اوروبا من خلال خطوط امداد اخرى عبر الاراضي التركية و الاوكرانية و البولندية.
و تدفع روسيا لهذه البلدان نظير مرور الغاز عبر اراضيها فاتورة ربما لا تريد موسكو تحمل كلفتها، فكان الحل: خط نورد ستريم ٢.
في عام ٢٠١٥ اعلنت روسيا عن تدشين الخط الجديد بتكلفة تبلغ ١١ مليار دولار، و هو يمر بخط مواز مع سلفه و كذلك بطول مشابه (١٢٣٠ كيلو مترا) و يربط بين اكبر حقول الغاز بين مدينتي فيبورغ الروسية و لوبمين الالمانية. و هذا الخط قد تصل عائداته السنوية الى ١٥ مليار دولار، كما يحظى بمباركة المانية، اذ سيعود بالفائدة المالية و الاستراتيجية عليها، لكن رياح مسار المشروع أتت بما لا تشتهيه سفن الروس و الالمان رغم الانتهاء من المشروع بشكل كامل في ايلول ٢٠٢١.
الاميركيون و حلفاؤهم من الاوروبيين وضعوا العراقيل، فمشروع بهذا الحجم و بتكلفة منخفضة لموسكو قد يحول حاجة الاوروبيين لغاز بوتين الى ادمان حقيقي في شرايين القارة، و قد يؤدي الى التبعية السياسية لموسكو، ليس هذا فحسب، بل ان ضخ الغاز الروسي عبر نورد ستريم ٢ يهدد باستغناء روسيا عن اوكرانيا كناقل للغاز عبر اراضيها، اذ يمر نحو ٧٠ بالمائة من صادرات الغاز الروسي عبر الاراضي الاوكرانية.
ان الاستغناء عن اوكرانيا في نقل الغاز قد يضعها على اعتاب كارثة اقتصادية تؤدي الى خسائر ضخمة تقدر بين مليارين و ثلاثة مليارات دولار سنويا، من رسوم العبور، لذا انتفضت اميركا و حلفاؤها ضد سلاح بوتين الجيوسياسي الذي قد يتحكم بالقارة العجوز بأكملها.
و قد فرضت اميركا عقوبات على خط الغاز الجديد في اعوام ٢٠١٧ و ٢٠١٩ و ٢٠٢٠، في حين لم تستطع روسيا وضع اللبنة الاخيرة فيه الا في ايلول ٢٠٢١.
و رغم اكتمال خط الغاز الجديد الا انه لم يتم استغلاله بسبب استمرار المعارضة الاميركية و الغربية له، حتى المانيا المستفيدة الاولى من المشروع اقتصاديا بدا انها تخوفت من تحكم بوتين بمفاتيح الطاقة، و قالت ان الاذن النهائي سيصدر في النصف الثاني من عام ٢٠٢٢.
الخطوة الالمانية جاءت احتجاجا على امتلاك شركة غازبروم المملوكة للحكومة الروسية نسبة ٥٠ بالمائة من المشروع، لذا كان لا بد لبوتين ان يضع اللمستين الاخيرتين و الاكثر خطورة اللتين قد تجبران الغرب على القبول بالامر الواقع.
اللمسة الاولى كانت في الربع الاخير من عام ٢٠٢١، اذ خفضت روسيا امدادات الغاز الى اوروبا التي تمر عبر اوكرانيا بنحو ٢٣ بالمائة في تخفيض يعتبر الاكبر خلال ٦ سنوات.
ضربة مزدوجة لبوتين بعث من خلالها رسالة تهديد ان هذا قد يكون مصير الامدادات اذا لم تسهل اوروبا اجراءات تشغيل نورد ستريم ٢، و في الوقت نفسه رفع تخفيض الامدادات سعر الغاز الطبيعي في اوروبا فالتهبت فاتورة الطاقة في القارة و ارتفعت بنسبة ١٥ بالمائة، زيادة سمحت للكرملين بمراكمة احتياطي من العملة الصعبة بشكل قياسي وصل الى ٦٣٠ مليار دولار.
امتلأ بطن الدب الروسي بالكثير من العسل الذي سيكفيه خلال شتاء قاس ما سمح له باتخاذ اللمسة الاخيرة الاكثر خطورة.
في كانون اول ٢٠٢١ بدأت ترد تقارير مرعبة عن حشود عسكرية روسية على الحدود الاوكرانية، و بينما كان العالم يحتفل بأعياد الميلاد بعد جائحة ألغت احتفالات العام السابق انطلقت التقارير الاميركية التي تحذر من غزو روسي لاوكرانيا في اي وقت نهاية العام.
أكثر من ١٠٠ الف جندي روسي محتشدون على الحدود استعدادا لمعركة محتملة رفع فيها الروس رايات اعتراضهم على رغبة اوكرانيا بالانضمام لحلف الناتو، و ايضا الشكوى من التعقيدات التي وضعها الاميركيون و الاوروبيون امام تشغيل خط الغاز الجديد.
و بينما ضخ الاميركيون و الاوروبيون مساعدات عسكرية كبرى في اوكرانيا، اكتفت المانيا ثاني المستفيدين من نورد ستريم ٢ ،بعد روسيا، بارسال٥ الاف خوذة فقط!
و هكذا بات خط الغاز الاكبر في العالم ورقة ضغط و تفاوض بين المعسكرين في معركة عض اصابع قد يصرخ فيها اولا من تستصرخه عروقه احتياجا الى الجرعات العاجلة من الغاز و المال!!
المصدر: قناة “أنا العربي”