الحرب الأوكرانية.. حسابات الأرباح والخسائر فى أوروبا
كتب أيمن النحراوي في صحيفة الشروق.
تعلم روسيا تمام العلم أن أوكرانيا هى أهم الدول المحورية فى شرق أوروبا، بمواردها ومساحتها الشاسعة كثانى أكبر دولة فى أوروبا، وموقعها الفريد فى المنطقة الأوراسية التى وصفها ماكيندر عميد علم الجغرافيا السياسية بأنها قلب الأرض، وبأنها أحد محاور حركة التاريخ، لدرجة أنه كتب بأن من يحكم أوراسيا، هو كمن يحكم قلب الأرض، ومن يحكم قلب الأرض فإنه يحكم العالم.
الكاتب والفيلسوف السياسى الروسى ألكسندر دوجين يعتبر أن ما يحدث فى أوكرانيا فى الوقت الراهن هو بمثابة إعلان حرب جيوبوليتيكية على روسيا، معتبرا أن أوكرانيا بسياساتها وتوجهاتها الحالية تؤدى دور العميل والخادم الجيوبوليتيكى لاستراتيجية الناتو فى أوروبا، ضاربة عرض الحائط بروسيا وأمنها القومى ومصالحها الاستراتيجية.
أوكرانيا بالنسبة لروسيا إذن هى أحد أهم الجسور الجغرافية التى تربطها بأوروبا، فضلا عن جذور عميقة تجمع بينهما من التاريخ والدين والأصول السلافية، كل ذلك يجرى تدميره والقضاء عليه، والتأسيس لعداء مزمن بين روسيا وأوكرانيا، بما يخدم جيوبوليتيكس الاستراتيجية الأمريكية الغربية المناوئة لروسيا.
والعلاقات الروسية الأوكرانية كان من الممكن ألا تصل إلى ما وصلت إليه، لولا قيام دول حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود بتأجيج الخلافات والنزاعات بين روسيا وأوكرانيا بما أوصل الأمور إلى تلك الحرب الضروس.
• • •
لذلك ومنذ اليوم الأول للحرب تبين أنها انعكاس لصراع استراتيجى كونى بين روسيا كقوة عظمى تستعيد مكانتها بعد كارثة انهيار الاتحاد السوفيتى، وبين حلف الأطلنطى بقيادة الولايات المتحدة التى جعلت من أوكرانيا ساحة حرب لمواجهة روسيا واستنزاف مواردها وطاقاتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، والحيلولة دون تحقيقها النصر فى تلك الحرب.
وإلى اليوم ما زالت رحى الحرب تدور دون توقف دون أن تظهر فى الأفق أى مؤشرات على قرب توقفها، بل إن العكس هو الأقرب مع إصرار الولايات المتحدة والدول الغربية على فرض رؤيتها والدفع نحو التصعيد المستمر فى مواجهة روسيا بإمداد أوكرانيا فى المراحل الأخيرة بأسلحة نوعية تضمنت الطائرات الحربية ومنظومات الصواريخ النوعية مما ينذر بتصعيد خطير فى مجريات الحرب.
المسألة لا تتعلق فقط بإمداد أوكرانيا بالسلاح بتصاعد من حيث كميات ونوعيات السلاح، بل يتعلق أيضا بآلاف المقاتلين والمرتزقة والفنيين والجنود والضباط والمستشارين الغربيين لتشغيل وإدارة تلك المنظومات الالكترونية المعقدة وتوجيهها، وهو ما تعتبره روسيا انخراطا غربيا مباشرا فى الحرب المستعرة ضدها، والتى باتت فى حقيقتها حربا غربية غير معلنة على روسيا.
الخط السياسى الغربى الذى يسير بالتوازى مع الإمدادات العسكرية، والذى ينتهج رصد مساعدات مالية واقتصادية هائلة للاقتصاد الأوكرانى، مترافقة مع الدعم الاعلامى المكثف فى مواجهة روسيا، وتقديم الوعود لأوكرانيا بضمها إلى الاتحاد الأوروبى ثم ضمها لاحقا إلى حلف الأطلنطى ــ يعنى تحول أوكرانيا مستقبلاً إلى خنجر دامٍ فى خاصرة روسيا.
• • •
الحرب الروسية الأوكرانية تمثل دون شك أخطر وأهم صراع عسكرى فى أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فأوروبا القارة العجوز التى باتت دولها الغربية تابعا مطيعا للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب وتأسيس حلف الأطلنطى وارتباط مصالحها الاستراتيجية على مختلف الأصعدة بالولايات المتحدة، وعليه فقد انتهجت وفق استراتيجية الحلف سياسة مناوئة لروسيا فى الأزمة الأوكرانية لم تلبث أن دفعت وستدفع أوروبا ثمنها غاليا.
لقد فقدت أوروبا فى أعقاب قرارات مقاطعة روسيا الإمدادات الروسية الهائلة من الغاز الروسى الرخيص الثمن نسبيا والذى كانت تعتمد عليه كمصدر رئيسى للطاقة لاقتصادياتها، وعززت الولايات المتحدة ذلك بالتفجير المتعمد لخط أنابيب نوردستريم فى بحر البلطيق طبقا للاتهامات الروسية، لتضمن بذلك تدمير أى فرص مستقبلية لضخ الغاز الروسى إلى ألمانيا وأوروبا عبر ذلك الخط.
ولم تلبث الولايات المتحدة فى أعقاب ذلك أن باتت أحد الموردين الرئيسيين للغاز والنفط إلى أوروبا بتكلفة باهظة مقارنة بالغاز والنفط الروسى، فارتفعت تكاليف الإنتاج الأوروبى وزادت مستويات التضخم، مع لجوء العديد من الدول الأوروبية لأساطيل الظل لنقل النفط والغاز والشراء من روسيا عبر أطراف ثالثة، الأمر الذى زاد تكاليف مصادر الطاقة فى أوروبا زيادة كبرى.
من جهة أخرى ومع الإجراءات الأمريكية والأوروبية تجاه الأصول والأرصدة والممتلكات الروسية، قامت روسيا بسحب وتصفية استثمارات وأرصدة كبرى من المصارف والأسواق المالية الغربية، وكأثر ارتدادى قامت العديد من الدول وكبرى الشركات والمؤسسات بسحب وتحويل أرصدتها واستثماراتها من أوروبا وأمريكا خشية تجميدها ومصادرتها مثلما حدث مع روسيا.
وفى ذات الوقت باتت الولايات المتحدة تطالب أوروبا بزيادة نفقاتها الدفاعية وإسهاماتها فى تعزيز القدرات العسكرية لحلف الناتو، الأمر الذى يعنى تحميلا على ميزانيات الدول الأوروبية.
• • •
ومع التصعيد فى الحرب الروسية الأوكرانية، عادت العديد من الدول الأوروبية إلى فتح ملفات نزاعاتها القديمة، فأخذت دول مثل ليتوانيا تطالب بأراضيها التى ضمت إلى بولندا، كما أخذت بولندا تطالب بمقاطعاتها التى ضمت إلى أوكرانيا، كما علت أصوات عديدة فى بولندا تطالب ألمانيا بتعويضات كبرى عن الحرب العالمية الثانية، فعلت أصوات مقابلة من ألمانيا تذكر بولندا بالمقاطعات والأراضى الشاسعة التى اقتطعت من ألمانيا وضمت إلى بولندا بعد الحرب.
ومن جهة أخرى ومع قيام حلف الاطلنطى بإمداد أوكرانيا بصواريخ ستورم شادو وصواريخ أتاماكس، وإمداد أوكرانيا بطائرات ف 16 وتمركزها فى المطارات والقواعد العسكرية تمهيدا لقيامها بالأعمال القتالية، عليه فقد اعتبرت روسيا أن تلك القواعد ستصبح هدفا مشروعا لها حتى لو كانت فى دول خارج أوكرانيا، أى أن احتمالات انتشار الحرب فى أوروبا باتت واردة وغير مستبعدة.
أيضا كان للحرب الروسية الأوكرانية تداعياتها على السياسة الداخلية فى العديد من الدول الأوروبية مع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة وتوسع شعبيتها واحرازها تقدم ملحوظ فى الانتخابات البرلمانية فى العديد من الدول الأوروبية، حيث يتفق معظمها على إيقاف التورط الأوروبى فى الصراع الروسى الأوكرانى.
والسؤال الذى يطرح نفسه بعد كل ذلك، هل تقوم أوروبا بإعداد حساب الأرباح والخسائر عن انغماسها فى الحرب الروسية الأوكرانية؟ وهل سينعكس ذلك على توجهات السياسات الأوروبية تجاه روسيا فى المستقبل؟ أم ستظل تابعا للسياسة الأمريكية حتى لو دفعت فى ذلك ثمنا غاليا؟