رأي

الجلوس على سطح عالم الذكاء الاصطناعي والنظر بعيون إماراتية أو فرنسية

كتب د. هيثم الزبيدي في صحيفة العرب.

الذكاء الاصطناعي تقنية تحتاج إلى الكثير من الموارد لتدر أكثر ما يمكن من العائدات. إذا كان ثمة درس تعلمناه من عام 2024 فهو أن سنة واحدة في تاريخ هذا القرن قد تحدث كل الفارق.

انضم الذكاء الاصطناعي إلى قائمة المعطيات الإستراتيجية التي تقوم على أساسها الدول في تحديد أولويات تحالفاتها مع الدول الأخرى. هو معطى استثنائي جديد يمثل خيارا إستراتيجيا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. إنه نقطة تحول تاريخية على المدى المنظور بما يمثله من عمق شامل يجمع بين معطيات مختلفة ما صار من الوارد تجاوزه. قل لي ما هو ترتيبك العالمي في الذكاء الاصطناعي، أقلْ لك ما هي أهميتك الإستراتيجية في عالم اليوم.

نقول إنه نقطة تحول تاريخية لأنه مثل بقية التغيرات الكبرى والشاملة التي جرت على مدى فترة الوعي البشري المسجل للتاريخ.

خذ مثلا بعضا من هذه النقاط المهمة:

الموقع الجغرافي أساسي لأنه يبوئك المكانة المرموقة. أن تكون على حافة من حافات البحر المتوسط، فإنك بذلك ستتحكم في الكثير من الحركة التجارية والسياسية والعسكرية. العالم القديم هو عالم البحر المتوسط، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وصولا حتى إلى انتشار العقائد الدينية. إذا أضفت إلى الموقع الجغرافي تطور وسائل النقل، فإنك تكسب أكثر فأكثر. أنت تزحزح الجغرافيا لصالحك.

لو توفرت لدى بلد الموارد الطبيعية، ما تحت الأرض  وما فوقها، فإنه بذلك يكتسب المزيد من الاهتمام والمكانة. الموارد البشرية نفسها هي موارد طبيعية تعتمد على طريقة تطويعها. الأمم الكبرى هي أمم حاضرة بعدد سكانها. المقصود بالطبع هو وفرة الأيدي العاملة أو المزارعة أو المقاتلة، وليس كثرة الأفواه. غزاة أو فاتحو العالم القديم والحديث نسبيا هم أبناء دول تكون الطاقة البشرية فيها حاضرة. أن تتحالف مع دولة حاضرة بشريا، فإنك إنما توفر لنفسك منعة العدد وحمايته.

التقدم في التعليم وتطور التكنولوجيا المصاحبة هما سلاح مبهر وفتاك. الغرب يحكم العالم لأنه تقدم علميا وتكنولوجيا. الشرق يجاري الغرب الآن في قوته، لأنه أدرك أن مراكمة عوامل التقدم الأخرى قد لا تعني الكثير مقابل التقدم العلمي.

التقدم الفكري والانفتاح ومجاراة فهم العالم لنفسه قوة معنوية هائلة. البلد -أو التجمع البشري- الذي يدرك أهمية ذاته، من الصعب هزْمه. فشلت الكثير من التكتلات الأيدليوجية لأنها جعلت نفسها أسيرة لهذه الفكرة أو تلك. الأحرار فكريا يصعب هزمهم بالمقارنة مع من يتم اقتيادهم خوفا أو جبرا.

العوامل الجديدة الإضافية تدخل عالمنا بشكل شبه يومي وتترك أثرها. لكن ثمة قفزات نوعية، كتلك التي نشهدها اليوم، تحدث الفارق العميق. الدبابة مثلا أحدثت الفارق في جبهات القتال، لتأتي الطائرة ثم الصاروخ والسلاح النووي وهكذا. جاءت المعلوماتية وثورة الاتصالات من بعدها لتثبت أن العالم (وهذه من فئة الكليشيه) عبارة عن قرية صغيرة.

الذكاء الاصطناعي من فئات التغيرات بالعلامة الفارقة. سترينا قمة باريس هذا الأسبوع التي تحضرها مئة دولة الفارق بين الحضور الفاعل والحضور المتفرج. الحضور الفاعل، كما رأينا استباقيا في اتفاقية الإطار للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي بين فرنسا والإمارات، يمهد لدخول هذا العالم الرحب بطريقة المشاركة والتأثير. الذكاء الاصطناعي تقنية تحتاج إلى الكثير من الموارد لتدر أكثر ما يمكن من العائدات. إذا كان ثمة درس تعلمناه من عام 2024، فهو أن سنة واحدة في تاريخ هذا القرن قد تحدث كل الفارق.

على الضفة الأخرى يأتينا الحضور المتفرج الذي يمر مستطرقا بلا خطة أو فهم. لقد شهدنا الكثير من هؤلاء المتفرجين خلال العقود القليلة الماضية التي وجدت ضالتها في الفرجة، حيث تحولت تقنية المعلومات والاتصالات وثورة المعرفة إلى مشاهد متداولة على شاشات الهواتف أو التلفزيون، وإلى دعاية أو تخريب أو تضليل، أو قصور في توجيه الشعوب المعنية لننتهي بأكوام من الخرائب كما نشهد كل يوم تقريبا، وبشكل لا يستثني حتى الدول المتقدمة التي تطوع التكنولوجيا لصالح الأيديولوجيا.

ماذا يعني أن تستثمر الإمارات كل هذه المليارات في الذكاء الاصطناعي الفرنسي (أو الأوروبي إذا شئنا الدقة)؟ المبادرة نفسها محفوفة بالمخاطر. نقول إنها خطيرة لأن استثمارات مشابهة حدثت خلال 14 شهرا ماضية علمتنا كيف يمكن أن تتوسع حصص شركات أو مجموعات تقنية إلى أرقام قياسية بالتريليونات، لنرى أنه من الوارد أن تنكمش إلى النصف بعد وقت قصير ما إن يدخل عامل آخر اللعبة. ما حدث بين أوبن إيه آي الأميركية وديب سيك الصينية مثال يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار.

نذكر كم اشتعل غضب الأميركيين من موضوع بيع معالجات إنفيديا لشركات صينية. صار الأمر أشبه بالهستيريا. لم نكن نعرف لماذا كل هذا. لكن بعد أشهر قليلة، وعندما طرحت ديب سيك نموذجها الرخيص من الذكاء الاصطناعي على كمبيوترات المكاتب وجعلت الوصول إليه ممكنا، بثمن يمثل عُشر نظيره الأميركي، فهمنا ما يجري. الحرب بين المنتجين مشتعلة الآن ولا نعرف بالضبط إلى أين ستقود. لكنها حرب مفتوحة ستشمل الكثير من أوجه الصراع بين البلدين الذي يزيد يوميا ولا يتراجع.

مشكلة الذكاء الاصطناعي أنه دخل في كل شيء تقريبا. ثمة قرار سياسي وصناعي يفتح الباب لدخوله في كل شيء من دون السؤال. والكلفة هي وجه من المشكلة، وتقدم كتبسيط للفارق بين تقنية أميركية مكلفة وأخرى صينية أرخص. لكنه تبسيط مخل. فخلف كل بند أو فقرة لمثل هذا العمل ثمة تفاصيل كثيرة لا يمكن تجاوزها حتى بنوعية المعالجات وتقنياتها وسرعتها، كما حاول الأميركيون أن يوحوا إلى حد أشهر قليلة ماضية.

وجد الإماراتيون أنفسهم في وسط لعبة تجاذب للقوى عندما صار لزاما عليهم تبرير استثمارهم في تقنيات أو أفراد صينيين، طالما كانوا يرغبون في مواصلة الاستحواذ على تقنيات متقدمة في الذكاء الاصطناعي. أكدوا التزاماتهم، كما كانوا يفعلون دائما عندما يتعلق الأمر بتعاقدات مهمة ومصيرية جرت من يوم التنافس قبل عقود على الحصول على طائرات أف – 16 الأميركية مثلا أم ميراج 2000 الفرنسية. التبرير هنا ضروري لأنه يكشف إلى أي مدى تتداخل التقنيات مع بعضها البعض، بين ما هو منسوخ وما هو مخترق وما هو مهدد للأمن القومي. الصينيون -ولا شك أنهم ليسوا من القوى البريئة في العالم- لا بد أنهم لم يكونوا ليضيعوا فرصة باب خلفي يفتح لهم في أبوظبي. الإمارات منعتهم وأغلقت الباب.

لكن التبرير يدفع في اتجاه آخر. الإمارات ليست بصدد حرمان نفسها، لا تقنيا ولا استثماريا، من الذكاء الاصطناعي بشروط مقيدة. هنا جاء العامل الفرنسي المهم الذي يسمح للإماراتيين بدخول القطاع من بوابة أخرى واسعة.

الذكاء الاصطناعي الأوروبي لا يتقيد تماما بالمعطيات الأميركية. لا شك أن الأميركيين لا يريدون أن يسمحوا بنقل كامل التقنية إلى أوروبا، خصوصا الآن مع وصول ترامب إلى الحكم، إلا أنهم لا يريدون تقييده بالكامل. الأوروبيون بحاجة إلى الذكاء الاصطناعي في كل مفصل من عملهم اليومي، وفي مختلف المجالات. الآن عليهم أن يقرروا كيف يمكن تطوير هذه التقنية وبأيّ مال ولصالح مَن من الحلفاء. تبدو أبوظبي حليفا مناسبا جدا.

من وجهة نظر إماراتية، يدرك الإماراتيون أن العملية مربحة ومفيدة. مربحة لأن ثمة سوقا هائلة في أوروبا لهذا النوع من المنتجات المتطورة، يكفي النظر إلى الكبار في أوروبا، أي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وهي دول رائدة صناعيا في أكبر تكتل صناعي وتجاري واقتصادي في العالم. لا يوجد ما يجعل الولايات المتحدة مستفزة على طول الخط مع أوروبا بخصوص الذكاء الاصطناعي. لكن من مصلحة أوروبا أن تطور خطوطها الخاصة لكي لا تأتي لحظة يمارس فيها ترامب أو أحد من مدرسته الفكرية (إذا كان بوسعنا توصيف ما يقوله كفكر أو ما يقوم به وزيره إيلون ماسك كلمعات ذهنية) نوعا من الرقابة أو المنع. ولو لم يحدث هذا أصلا، فإن السوق الأوروبية الضخمة نفسها تشكل دعوة لأي مستثمر إلى القدوم والعمل بضمانات الحماية المتزايدة، طالما أن العالم يسير نحو التكتلات والحمائيات الجمركية.

العمل مع الأوروبيين مربح للإماراتيين كما هو مفيد لأنه يقدم لهم خلفية معرفية في عالم متنافس واسع. علينا أن نتذكر أن في أبوظبي ثمة جامعة متخصصة للذكاء الاصطناعي وهناك شركات ومعاهد كبيرة، وقد عملت هذه الجامعة والشركات والمعاهد على استقطاب خبرات فرنسية، أي أن البيئة متوفرة أصلا لتوقيع اتفاقيات مثل التي تم توقيعها الأسبوع الماضي في باريس بحضور الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

السوق الأوروبية، ولأسباب متعددة، قد لا تكون متقبلة للنسخة الصينية من الذكاء الاصطناعي. هذا لا يعني أنها ستكون طاردة لها، لكن وقد تم تصنيف الذكاء الاصطناعي كتقنية أو سلعة أو حتى سلاح إستراتيجي، فإن فرنسا ستبني صناعتها بكامل معطياتها الذاتية وبدعم وتمويل من حلفاء موثوقين مثل الإمارات، مثلما فعلت بتطويرها الأسلحة والطائرات والدبابات والصواريخ والمعدات الأخرى، وصولا إلى المعدات شبه العسكرية مثل طائرات أيرباص والصواريخ التي تحمل الأقمار الاصطناعية.

إذا تمت الاتفاقية وتحولت إلى صفقة، فإن الذكاء الاصطناعي سيكون بلا أدنى شك محطة فارقة تقوم عليها تحالفات مهمة، ويصبح المجمع الذي يجري البحث في إقامته باستثمار إماراتي ما بين 30 و50 مليار يورو لا يقل قيمة عن تشييد قاعدة عسكرية عملاقة، بل تزيد أهميته عليها دون حد أدنى من أي مبالغة.

هذا يجعل من أبوظبي مستثمرة في قلب الصناعة التقنية السوبر متقدمة عالميا، في قطاع شبه مضمون ومحمي بالكثير من أساسيات العمل الأوروبي المشترك، ومن غير الوارد منافسته على المدى القريب من منافس صيني أو أميركي في مجال الأسواق.

لا يمكن النظر إلى الاتفاقية إلا من هذا الباب طالما أنه موسم تشكيل التحالفات وبناء الشراكات. الفرق يكمن في أن الإمارات وفرنسا (ومن خلف فرنسا الكثير من الأوروبيين من أصحاب الصوت الواطئ) لا تريدان المبالغة في التعبير عن أهمية ما جرى، وتركه ضمن أحداث قمة باريس للذكاء الاصطناعي.

العالم غارق في مشاكل من نوع آخر، وهي مشاكل تستقطب اهتمام الإمارات وفرنسا أيضا، ولكن الاهتمام بها لا يعني أن يشل العالم نفسه عن مسيرة كبرى انطلقت وتتسارع بلمح البصر. في تاريخ حافل من العلاقات بين الإمارات وفرنسا، بقيت تلك العلاقات شيئا متميزا ومفيدا للطرفين. اتفاقية الذكاء الاصطناعي الأخيرة فصل آخر من فصول هذا التاريخ الحافل. اجلس على أعلى سطح في باريس وانظر بعيون إماراتية أو فرنسية وسترى الفارق بين فاعل ومتفرج.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى