الجزائر وفرنسا.. هل تدفع المصالح إلى إنهاء حالة المد والجزر؟
جاء في مقال للكاتب اسماعيل عزام في “دوتشيه فيليه”الالمانية:
العلاقة بين الجزائر وفرنسا تسوء أحياناً وتتحسن أحياناً أخرى، بعد كل أزمة يأتي خبر بطيّها، ثم يأتي خبر بغضب رسمي بسبب قضية معينة، ولاحقاً يأتي خبر إصلاح “سوء التفاهم”. وآخر مثال عودة السفير الجزائري إلى فرنسا لمزاولة مهامه، بعد مرور قرابة شهرين على استدعائه، احتجاجاً على ما اعتبرته الجزائر حينها “تهريب” ناشطة مطلوبة قضائياً.
ولا يتوقف الأمر عند عودة السفير سعيد موسى إلى باريس، فوزيرا خارجية البلدين، الجزائري أحمد عطاف، والفرنسية كاثرين كولونا، شددا في اتصال هذا الأسبوع على ضرورة “تعزيز العلاقات الثنائية”. وتؤكد الجزائر على ضرورة تقييم التقدم المحرز في معالجة ملفات كبرى ستشكل جوهر زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى فرنسا.
“العلاقة بين الطرفين تشبه علاقة الأزواج، فهي غير مستقرة” يقول علي صالح بن جديد، وهو محام جزائري متخصص في القانون الدولي ودبلوماسي سابق، مشيرا إلى أن علاقة الطرفين شهدت تاريخياً عدة منعرجات، إذ كانت جد متشنجة في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين الذي أمّم المحروقات ما خلف غضباً في باريس، ولم تنفتح العلاقة إلا مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في التسعينيات.
ويضيف المتحدث لـ المانيا اليوم عربية إلى أن العلاقة تأثرت بتغيّر التوجهات السياسية في البلدين بعد قدوم الرئيسين عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون، لكنه يستطرد أن هناك “لوبيات اقتصادية لها نفوذ كبير على عدة مستويات، استفادت تاريخيا من ثروات الجزائر ولاتزال تبحث عن ذلك، وأن هذه اللوبيات جزء من لغة المصالح التي تقود السياسات”.
أزمات وحلول في وقت سريع
ظهرت الكثير من المؤشرات الوردية على علاقة جديدة في عهد الرئيس الفرنسي ماكرون. ففي حملة ترشحه الأولى، وصف الاستعمار الفرنسي للجزائر بـ”الجريمة ضد الإنسانية”. كما اتخذ عدة مبادرات لمصالحة تاريخية مع الجزائر، منها الاعتراف بالتعذيب في عهد الاستعمار، ورفع السرية عن أرشيف يخصّ الحرب الجزائرية، والاستعداد لإعادة رفات مجموعة من قادة الثورة الجزائرية.
لكن لم ينجح ماكرون في تحقيق مصالحة تاريخية مع الجزائريين كما كان يريد، فالجزائر وجهت عدة انتقادات إلى تقرير أنجزه المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا حول الاستعمار الفرنسي بتكليف من ماكرون، ما دفع هذا الأخير إلى الإعلان مجدداً عن لجنة بحث جديدة تضم خبراء من البلدين. كما لاتزال الجزائر تدفع نحو اعتذار فرنسي رسمي، أو على الأقل حالياً اعتراف رسمي بكل حقائق فترة الاستعمار.
في الواقع تعددت الأزمات بين البلدين، فقط خلال السنتين الأخيرتين، اندلعت ثلاث أزمات على الأقل، الأولى تخصّ خفض باريس لعدد التأشيرات الجزائرية بسبب خلافات في مجال الهجرة، ثم احتجاج الجزائر الشديد على تصريحات لإيمانويل ماكرون، عندما نسبت له صحف تشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وقوله إن النظام الجزائري الحاكم بُني على “ريع مرتبط بالذاكرة”.
وبعدها بأيام تراجع ماكرون بشكل مبطن، وقال الإليزيه إن الرئيس الفرنسي “يكن احتراماً كبيراً للأمة الجزائرية ولتاريخها ولسيادة الجزائر”، وعادت العلاقات لقوتها أشهرا بعد ذلك خصوصاً مع زيارة ماكرون للجزائر في صيف 2022 وتأكيده رفقة الرئيس عبد المجيد تبون بدء صفحة جديدة من العلاقات، كما أعلنت باريس نهاية أزمة التأشيرات.
وقبل عودة السفير الجزائري لدى فرنسا سعيد موسى لمزاولة مهامه، قامت الخارجية الفرنسية بإحالة سفيرها لدى الجزائر، فرانسوا غويات، على التقاعد، ما اعتُبر إشارة فرنسية إيجابية للبحث عن حل للأزمة مع الجزائر على خلفية دعم دبلوماسيين فرنسيين لخروج الناشطة الحقوقية الجزائرية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا، وهي الممنوعة من السفر بقرار جزائري، بينما دافعت باريس حينها عن دعمها للناشطة بحكم توفرها على الجنسية الفرنسية.
ولذلك تعدّ زيارة تبون إلى فرنسا، وهي أول زيارة له لهذا البلد منذ توليه السلطة، ومن المرتقب إجراؤها في مايو/أيار القادم، هامة جدا حسب تأكيد علي صالح بن جديد، إذ “ستوضح إلى أيّ مدى يمكن تحقيق تقدم في المصالحة التاريخية، وهل سينجح ماكرون في الدفع نحوها بعيدا عما يتعرض له من ضغوط داخلية؟”.
لكن هناك من يرى أن الأزمة بنيوية في علاقة البلدين وستستمر. يقول الصحفي الجزائري عثمان لحياني لـ المانيا اليوم عربية، إن “خط الأزمة هو أحد ثوابت هذه العلاقة، وأن مخزون الأزمة أكبر من الرغبة السياسية أو تلك التي تمليها ظروف ما على البلدين”.
ويتابع أن موضوع الذاكرة سيبقى محدداً رئيسياً لعلاقة البلدين، وهو موضوع متشعب وملفاته “تتكاثر مع الوقت”، كما أن الأجيال الجديدة في الجزائر “وبخلاف ما كانت فرنسا تتوقع، هي أكثر مطالبة بالحقوق التاريخية للجزائر وثلاثية الاعتراف والاعتذار والتعويض”.
المصالح المشتركة أكبر
بين الدول المغاربية، الجزائر هي الوحيدة التي زارها ماكرون في ولايته الرئاسية الثانية. كما أنّ الجزائر هي الدولة المغاربية الوحيدة التي زارها ماكرون ثلاث مرات في ظرف سنوات قليلة.
وتظهر المصالح الجزائرية-الفرنسية قوية في هذه الفترة، في وقت تستمر فيه الأزمة الصامتة بين المغرب وفرنسا والتي وصلت مؤخراً حد إنهاء الرباط لمهام سفيرها في باريس دون تعيين بديل، فضلاً عن تراجع العلاقة الأوروبية مع الرئيس التونسي قيس سعيّد بسبب توجهاته الجديدة.
وتعد الجزائر الشريك التجاري الثاني لفرنسا في أفريقيا، فهي المصدّر الثاني للجزائر بعد الصين، والمستورد الثاني للبضائع الجزائرية بعد إيطاليا. وفي وقت تضرّرت فيه العلاقة الجزائرية – الإسبانية بسبب “دعم مدريد للحكم الذاتي للصحراء الغربية تحت السيادة المغربية”، ولا تزال العلاقة منقطعة تماماً مع المغرب، والعلاقة مع الخليج ليست متطورة، تبقى فرنسا شريكاً تقليدياً للجزائر بعيداً عن الخلافات الدورية.
“هناك عوامل كثيرة تضغط على الجزائر وباريس لتسوية الأزمات الطارئة والقبول بالعودة إلى خط ‘علاقات الرتابة’، بينها مسألة الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، ومنها التنسيق الأمني والتعاون القضائي، والمصالح الحيوية للمؤسسة الاقتصادية الجزائرية التي لم تتخلص بعد من كامل ارتباطها ، إضافة إلى ملفات إقليمية” يقول عثمان لحياني.
وسبق لعبد المجيد تبون أن صرّح أنّ بلاده وفرنسا في حاجة إلى “العمل سويا، سواء ثنائياً، أو بشكل متعدد الأطراف لمواجهة الصعوبات الناجمة عن الواقع الدولي الراهن”، ويشير تبون في حديثه بمناسبة استقباله ماكرون إلى ملفات منها الوضع في المنطقة ومواضيع الذاكرة والتعاون الاقتصادي والدبلوماسي.
وفي تطور آخر بحثت الدول الأوروبية عن بدائل للغاز الروسي عقاباً للرئيس فلاديمير لبوتين على غزوه أوكرانيا، وكانت الجزائر ضمن هذه البدائل. ورغم أنها لا تتمتع بطاقة تصدير عالية جدا كروسيا، إلّا أنها شكّلت أحد الموارد، وصدرت أكثر من أربعة مليارات متر مكعب من الغاز إلى دول أوروبا الجنوبية، وهي تخطط لرفع طاقتها التصديرية مستقبلاً.
يرى علي صالح بن جديد أنه بعد حرب أوكرانيا “وجدت الجزائر نفسها في وضع مريح باعتبارها مصدرًا للطاقة وكذلك علاقاتها الاستراتيجية مع الصين وتركيا”، بينما وجدت فرنسا حسب قوله “منافساً جديداً في علاقتها مع الجزائر، هي إيطاليا، خصوصاً فيما يتعلّق ببيع السلاح واستيراد الطاقة”.
يتعلق الأمر هنا باتفاقيات كبيرة بين روما والجزائر، إذ تسعى الأولى لأن تكون أكثر دول الاتحاد الأوروبي استفادة من الغاز الجزائري، مستفيدة من العامل الجغرافي.
لكن الأمر لا يخصّ فقط المصالح الاقتصادية الفرنسية. يضيف بن جديد أنّ “التقارب مع الجزائر يفتح الباب أمام فرنسا لتفاهمات مع بلدان في الساحل الأفريقي، خصوصا مع تراجع النفوذ الفرنسي في هذه المنطقة”، بينما تبقى فرنسا بلداً مهماً للغاية للجزائر، سواء اقتصاديا أو اجتماعياً أو حتى سياسيًا نظراً للدور الذي تلعبه باريس في الاتحاد الأوروبي.