الجزائر توجه بوصلتها نحو أمريكا.. فكيف يستجيب ترامب؟
كتب منصف السليمي, في “DW” :
قبيل تنصيب الرئيس ترامب كانت عدة مؤشرات تفيد بأن علاقات الجزائر بالولايات المتحدة مرشحة لفترة صعبة. بيد أن توقيع مذكرة تعاون عسكري بين البلدين يؤشر على تحول في سياسة الجزائر ويطرح تساؤلات حول كيفية ستجابة إدارة ترامب له.
ختام ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى كان محبطا جدا للجزائر بسبب قراره الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
وجاء تعيين السيناتور السابق ماركو روبيو في منصب وزير خارجية بفريق إدارة ترامب، ليلقي بمزيد من الشكوك في الجزائر على مستقبل العلاقات، وذلك على خلفية حملة كان يقودها روبيو في مجلس الشيوخ سنة 2022 من أجل فرض عقوبات على الجزائر بسبب دعمها لروسيا في حرب أوكرانيا عبر تمويل الصناعة العسكرية الروسية.
أما المؤشر الثالث، فيتمثل في سياق إقليمي يتشكل بعد حربي غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد، تتجه ملامحه لتعزيز اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والدول العربية التي تتصدر أجندة الرئيس ترامب في الشرق الأوسط، مقابل تراجع ما يسمى بـ “محور المقاومة” الذي تتزعمه إيران، وتعتبر الجزائر أبرز الدول العربية المؤيدة له.
بيد أن الأيام الأولى بعد تنصيب الرئيس ترامب شهدت توقيع البلدين مذكرة تفاهم للتعاون العسكري غير مسبوقة واتصالا بين وزيري الخارجية شددا فيه على “ديناميكية إيجابية” في العلاقات.
فما مدى اعتبار هذه المعطيات مؤشرا على تحوّل في سياسة الجزائروعلاقاتها مع واشنطن وكيف يمكن أن تؤثر على ملفات جيوسياسية حسّاسة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط؟
الوثيقة الموقعة – أهميتها وتوقيتها
الوثيقة التي وقعها الجانبان الأمريكي والجزائري هي “مذكرة تفاهم للتعاون العسكري”، وقعها الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” والوزير الجزائري المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الجنرال سعيد شنقريحة، بحسب بيان نشر على موقع قيادة “أفريكوم” على الإنترنت.
ويضيف البيان أنّ الزيارة، وتوقيع مذكرة التفاهم بين الولايات المتحدة والجزائر، تبيّن “الرؤية المشتركة لبلدينا لتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي والدولي من خلال الحوار الاستراتيجي”.
ومن جهتها ذكرت مصادر قريبة من وزارة الدفاع الجزائرية بأن مذكرة التفاهم الموقعة بالجزائر العاصمة يوم 22 يناير/كانون ثاني 2025 تنص على “تكثيف التعاون العسكري بين البلدين، بما في ذلك تبادل المعلومات والتدريب المشترك”.
وأضافت بأن “التعاون العسكري يشكل جوهر الاتفاق” بيد أن “طموحاته تتجاوز ذلك، إذ تتقاسم واشنطن والجزائر هدف إحلال السلام في منطقة تهتز بفعل أزمات عديدة. إذ توفر “أفريكوم” بفضل تواجدها في 53 دولة أفريقية، “خبرات قيمة في مكافحة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل الإرهاب وتهريب الأسلحة”.
وتشمل مسؤوليات قوات “أفريكوم” الأمريكية معظم دول القارة الأفريقية، وهي واحدة من 11 قيادة مقاتلة تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، وتعمل “بالتعاون مع شركائها على مواجهة التهديدات العابرة للحدود الوطنية والجهات الفاعلة الخبيثة، وتعزيز قوات الأمن والاستجابة للأزمات”، كما يشير موقع “أفريكوم” على الإنترنت.
من جهتها كشفت تقارير إعلامية إستنادا إلى مصادر غربية بأن الولايات المتحدة الأمريكية أقامت أكبر مركز تجسس خارج الولايات المتحدة في منطقة تمنراست في صحراء الجزائر ترتبط بالأقمار الاصطناعية، وهي تتيح للمصالح الأمنية الأمريكية المختصة بالتجسس على دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء كما يمتد مدى التنصت لديها من الشرق الأوسط حتى الولايات المتحدة.
ولم يؤكد الجانبان هذه المعلومات كما لم ينفياها.
ويرى مراقبون أن قراءة مضمون الاتفاق الموقع بين قيادة “أفريكوم” الأفريقية ووزارة الدفاع الجزائرية والسياق الذي تأتي فيه، يحمل على الاعتقاد بأن ثمة ديناميكية جديدة تجري في علاقات البلدين التي كانت تجتاز برودا ملحوظا خصوصا في نهاية فترة إدارة ترامب الأولى. ويمكن رصد بعض ملامح الأهمية في هذا الاتفاق:
أولا: يرى محللون بأن الاتفاق يتضمن أبعادا جديدة في التعاون الأمني والعسكري بين الجزائر والولايات المتحدة. وإذا تأكدت التقارير التي تفيد بإقامة الولايات المتحدة مركزا كبيرا للتجسس في منطقة تمنراست في صحراء الجزائر يرتبط بالأقمار الاصطناعية، فسيكون ذلك بمثابة خطوة غير مسبوقة تقدم عليها الجزائر التي لطالما اعتبرت إقامة قواعد أو منشآت عسكرية أجنبية فوق أراضيها “خطا سياديا أحمر”.
ثانيا: يمكن أن يعد الاتفاق مؤشرا على منعطف في التوجهات الاستراتيجية للجزائر التي تعرف نفسها “كقوة إقليمية مستقلة” وكحليف تاريخي لقوى مناوئة للغرب سواء في مرحلة المعسكر الاشتراكي وحليف عسكري لروسيا المصدر الرئيسي لتسلح الجزائر والصين كأول شريك تجاري، إضافة لكونها حليفا لما يسمى بمحور “المقاومة” الذي تقوده إيران.
فبعد عقود من التعاون الأمني مع الولايات المتحدة في قضايا الإرهاب والحوار الاستراتيجي”الحذر” والبطيء مع حلف الناتو، يبدو أن الجزائر بصدد قطع خطوة جديدة نحو التقارب مع التكتل العسكري الغربي، سواء من خلال الاتفاق الحالي مع البنتاغون الذي يقود الناتو أو عبر تطوير التعاون مع الحلف في تأمين مناطق انتاج الطاقة في جنوب الجزائر.
وتأتي هذه الخطوة بعد سلسلة مشاورات مكثفة وتبادل للزيارات. وكانت أكثر الخطوات الجزائرية دلالة على المنعطف باتجاه التكتل العسكري الغربي، إعلان وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب، في منتصف نوفمبر/ تشرين ثاني 2024، قرار بلاده التعاون مع حلف شمال الأطلسي لتأمين منشآتها الطاقية.
ورأى مراقبون في القرار نقطة تحول في السياسة الخارجية للجزائر، خاصة في ظل التهديدات المتزايدة التي تواجهها المنطقة خصوصا دول الساحل والصحراء وليبيا والتي تمتد حدودها مع الجزائر لآلاف الكيلومترات. ويجسد القرار إستجابة أمنية من الجزائر إزاء المخاطر المحدقة بمصالحها الاستراتيجية المتمثلة خصوصا في حماية منشآت النفط والغاز التي يعتمد عليها اقتصاد البلاد بنسبة 95 في المائة.
وتشكل حماية مصادر الطاقة أيضا مصلحة استراتيجية لأوروبا التي ضاعفت من اعتمادها على واردات الغاز والنفط الجزائري لتعويض الطاقة الروسية إثر غزو روسيا لأوكرانيا.
ثالثا: توقف مراقبون عند دلالات اختيار توقيت توقيع “مذكرة التفاهم” بالتزامن مع تنصيب الرئيس ترامب، رغم أن الاتفاق كان شبه جاهز منذ فترة وتم إعداده في جولات محادثات عديدة خلال فترة إدارة الرئيس السابق جو بايدن. وقد أشار بيان “أفريكوم” إلى الزيارات المتكررة التي قام بها الجنرال مايكل لانغلي قائد “أفريكوم” للجزائر قبل توقيع الاتفاق.
وكان لافتا خلال مراسم توقيع مذكرة التفاهم للتعاون العسكري، حرص الوزير الجزائري المنتدب في الدفاع ورئيس أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة على توجيه تهنئة للرئيس ترامب محملة بإشارات على الرغبة في التقارب.
رابعا: رغم أهمية محتوى وسياق الوثيقة الموقعة بين البلدين، إلا أنها تعتبر في القاموس الديبلوماسي وثيقة معنوية تعبر عن نوايا الطرفين أو الأطراف الموقعة عليها بالالتزام السياسي بالتعاون في ميادين تحددها الوثيقة، دون أن تكون ملزمة قانونيا لأي من الموقعين عليها، وهي بذلك أقل درجة بروتوكولية وقانوينة من اتفاق التعاون.
كما أن توقيع المذكرة تم من الجانب الجزائري من طرف الوزير المنتدب للدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش بينما كان توقيع الجانب الأمريكي من طرف قائد “أفريكوم” وهي قيادة عسكرية إقليمية، أي أقل درجة من وزير الدفاع أو حتى قيادة أركان الجيوش الأمريكية.
ويرى محللون بأن الصيغة البروتوكولية التي وُقعت بها مذكرة التفاهم تؤشر إلى أنها بمثابة إعلان نوايا على التوجه نحو إرساء تعاون أكبر في المستقبل، يمكن أن ترتقي مستقبلا لمستويات أعلى بروتوكوليّا وقانونيّا إلى درجة اتفاقية تعاون أو أعلى منها مثل معاهدة.
دوافع وراء الخطوة الجزائرية باتجاه واشنطن
كما يرى محللون بأن الخطوة التي أقدمت عليها الجزائر بتوجيه بوصلتها نحو واشنطن يمكن قراءتها في سياق رد فعل من الدولة المغاربية المحورية على تحديات وتطورات متسارعة يشهدها محيطها الأفريقي والمتوسطي إضافة إلى متغيرات في أدوار اللاعبين الدوليين بالمنطقة. ويمكن وضع سلّم للعوامل التي يمكن اعتبارها كدوافع للتحرك الجزائري.
أولأ: تصدّع التحالف مع روسيا
رغم المستوى الاستثنائي من التعاون الذي بلغته العلاقات الروسية الجزائرية تاريخيا في الميادين الأمنية والعسكرية، إلا أنها باتت تتعرض في السنوات الأخيرة إلى هزات ملحوظة، ظهرت بالخصوص مع حرب أوكرانيا. إذ واجهت الجزائر مشاكل في استمرارية وتأمين الواردات العسكرية من روسيا بسبب تراجع مستوى الصادرات العسكرية الروسية وتوجيه الذخيرة والمعدلات لمتطلبات حرب أوكرانيا.
وعلى صعيد آخر دشنت روسيا، التي تعتبر الشريك العسكري الأول للجزائر، مؤخرا سلسلة من التحركات على الساحة الأفريقية والمغاربية بشكل رأى فيه شركاؤها الجزائريين أنها تتم على حسابهم.
إذ أبرمت موسكو اتفاقيات في مجالات الطاقة والتعدين وتجارة السلاح مع عدد من الدول الأفريقية والمغاربية، في محاولة منها لاستخدام القارة الأفريقية كقاعدة خلفية لتحركاتها الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة عبر أذرع موازية مثل مجموعة “فاغنر” في تقليص النفوذ الغربي، ولكسب مزيد من المصالح التجارية عبر منتوجاتها من الصناعات الحربية والاستيلاء على ثروات طبيعية ومعادن نفيسة استراتيجية.
بيد أن التحركات الروسية التي تؤدي بشكل ملحوظ إلى مضايقة أو تقليص النفوذ الغربي وخصوصا الفرنسي، باتت تساهم أيضا وبشكل ملحوظ في التأثير على دور الجزائر في منطقة الساحل والتي تعتبرها مجالا حيويا لها، وتلعب منذ عقود أدوارا إقليمية هناك سواء بفعل نفوذها على محيط حدودها المترامية بآلاف الكيلومترات مع تلك الدول أو في سياق تنسيق مع قوى غربية في قضايا أمنية مثل مكافحة الإرهاب.
ففي عام 2023 أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي “إنهاء” اتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر مع الجماعات الانفصالية الشمالية وأبرزها فصائل الطوارق.
وخرجت الخلافات الروسية الجزائرية إلى العلن عبر انتقادات وجهها مندوب الجزائر عمار بن جامع، لدور مجموعة “فاغنر” الروسية في عمليات الجيش المالي شمال البلاد على الحدود مع الجزائر، ودعوته إلى محاسبتها.
كما تعتبر الأزمة الليبية واحدة من الملفات التي ظهرت فيها تباينات بين سياستي روسيا والجزائر إذ يدعم كل منهما الطرف المقابل في الصراع الدائر بين سلطتي الغرب الليبي (حكومة طرابلس) والشرق بزعامة الجنرال خليفة حفتر.
وما قد يكون بمثابة قشة “قصمت ظهر البعير” في علاقات الجزائر بروسيا، مقابل ما تشهده العلاقات الروسية المغربية من تنام في ميادين اقتصادية ومسافة ملحوظة باتت تتخذها الديبلوماسية الروسية من المواقف الجزائرية في ملف الصحراء الغربية مثلا في مجلس الأمن الدولي.
ثانيا: علاقات مضطربة مع شركاء أوروبيين
إذا كانت المشاورات الجزائرية الأمريكية حول تطوير التعاون الأمني والعسكري قد بدأت منذ ثلاث سنوات على الأقل، فإن ذلك يعني أن التوترات الأخيرة في العلاقات الفرنسية الجزائرية لم تكن حاسمة كدافع أساسي وراء التقارب الجزائري الأمريكي، رغم أنه يمكن أن يكون قد ساهم في تسريع وتيرة سعي الجزائر للتقارب مع واشنطن.
فالجزائر التي تعرضت علاقاتها في السنوات القليلة الأخيرة مع حليفتها التقليدية روسيا لتصدع، دخلت علاقاتها في الأشهر القليلة الماضية أزمة حادة مع شريكتها الأوروبية الأولى فرنسا على خلفية ملفات ثنائية ولكن بالخصوص بسبب إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون دعمه “سيادة المغرب على الصحراء الغربية”.
وقبل فرنسا شهدت علاقات الجزائر مع شريكتها الأوروبية الأخرى إسبانيا أزمة أيضا بسبب ملف الصحراء وتأييد حكومة بيدرو سانشيز لمقترح المغرب بإقامة حكم ذاتي موسع في الصحراء.
ويرى محللون بأن التقارب الجزائري الأمريكي، حدث بفعل التقاء سعي جزائري نحو واشنطن مع حاجة أمريكية لدور أمني إقليمي يعوض الفراغ الأمني والتحديات التي بات الغرب يواجهها في منطقة الساحل والصحراء بإنهيار النفوذ الفرنسي والأوروبي هناك.
ثالثا: عقدة ملف الصحراء
ومهما كانت المتغيرات الطارئة في علاقاتها مع حلفائها أو شركائها التقليديين مثل روسيا وفرنسا، فلا يرجح أن يكون تأثيرها حاسما في إقدام الجزائر على تغيير أساسي في توجهاتها الاستراتيجية بالدرجة التي يمكن أن يكون عليها مفعولُ عاملٍ آخر يقع في صلب العقيدة العسكرية للجزائر، أي ملف الصحراء الذي أصبح في السنوات الأخيرة، وخصوصا في ظل قيادة الجنرال سعيد شنقريحة للجيش، يصنف في الخطاب السياسي والعسكري الجزائري كلمف “أمن قومي” والمغرب كـ”عدو كلاسيكي”.
وفي هذا السياق يمكن أن يُفهم التحرك الجزائري باعتباره استجابة لقرار إدارة الرئيس ترامب سنة 2020 الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء. ويدرك القادة الجزائريون أن الموقف الأمريكي كان له مفعول الدومينو في ملف الصحراء باتجاه التأييد المتزايد لمقترح المغرب تسوية النزاع على أساس إقامة حكم ذاتي موسع في إطار السيادة المغربية.
ويرى محللون بأن الخطوة الجزائرية هي محاولة لوقف النزيف والخسائر الديبلوماسية بتغيير مجرى المياه من مصدرها، قبل أن تتحول إلى زخم جديد في ولاية ترامب الثانية وربما تؤدي إلى طي أقدم نزاع في القارة الأفريقية على حساب الموقف الجزائري.
رابعا: الخوف من العزلة بعد تطورات الشرق الأوسط وتراجع المحور الإيراني
منذ توقيع اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية واعتراف إدارة الرئيس ترامب سنة 2020 بسيادة المغرب على الصحراء، تكررت في الخطاب الأمني والسياسي للسلطات الجزائرية بشكل ملحوظ مسألة وجود”مؤامرة خارجية لزعزعة استقرار” الجزائر، ومعها يتردد اسم أربع دول: إسرائيل، فرنسا، المغرب والإمارات العربية المتحدة. ويتم التلميح بشكل غير مباشر للدور الأمريكي دون ذكره بالإسم.
بينما تتم الإشارة بشكل مباشر للولايات المتحدة في حالات مثل التجسس أو المراقبة بالأقمار الصناعية. وكان أحدثها تقارير نشرت على مواقع جزائرية قريبة من أجهزة أمنية وعسكرية، أفادت بأن طائرة أمريكية بوينغ “بي-أ8-بوسيدون” P-8A Poseidon تابعة لقوات البحرية الأمريكية حلقت يوم 14 يناير/كانون الثاني 2025 لعدة ساعات في الأجواء الجزائرية بالقرب من العاصمة الجزائرية، لأغراض جمع المعلومات الاستخبارية الإلكترونية. كما نشرت تلك التقارير على مواقع إسرائيلية وأوروبية.
وهذه ليست المرة الأولى التي تُثار فيه مسألة التجسس الأمريكي على الجزائر ودول أخرى بالمنطقة، وكان أكثرها إثارة للجدل ما كشفت عنه وثائق سرية أمريكية سربها العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن سنة 2013.
وردت عليها الولايات المتحدة (في عهد إدارة أوباما) إبانها بشكل رسمي عبر لجنة من الكونغرس الأمريكي ورد فيه أن عمليات التجسس التي تقوم بها وكالة الأمن القومي الأمريكي على عدد من الدول: “لا تنتهك القانون ولا محيد عنها في مكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي للولايات المتحدة”، فضلا عن كونها تتم بمقتضى الفصل 702 من قانون تجسس الحكومة الأمريكية في الخارج، الذي تمت المصادقة عليه في سنة 2008”.
وإثر سقوط نظام بشار الأسد في سوريا الذي كانت الجزائر حليفا تاريخيا له منذ زمن “جبهة الصمود والتصدي” (سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي)، ومؤيدا للمحور الذي تقوده حاليا إيران، زاد منسوب الحديث في الخطاب السياسي والإعلامي عن “مؤامرة” على الجزائر.
فعلى الصعيد المحلي، أفاد نشطاء جزائريون بأن السلطات شنت في السابيع القليلة الماضية حملة اعتقالات لعشرات النشطاء إثر إطلاق هاشتاغ “مانيش راضي” (لست راضيا) واحتجاجات اجتماعية في الجامعات ومدن مختلفة من البلاد. وتخشى السلطات من تجدد احتجاجات “الحراك الشبابي” الذي هز الجزائر سنة 2019 ولم تخمده سوى جائحة كورونا وحملة قمع واسعة النطاق.
وغالبا ما تتعامل السلطات الجزائرية مع الاحتجاجات على أساس نظرية المؤامرة ووجود أطراف خارجية تحركها. وقد وُجهت مؤخرا على لسان الرئيس عبد المجيد تبون ورئيس هيئة أركان الجيش الوزير المنتدب في الدفاع الجنرال سعيد شنقريحة، لباريس بأن “الاستخبارات الفرنسية متورطة في التخطيط لزعزعة استقرار الجزائر” على نمط ما حدث لنظام الاسد. ورد وزير الخارجية الفرنسية قائلا: إنها “اتهامات لا أساس لها”.
حسابات إدارة ترامب
يميل محللون إلى قراءة سياسة الرئيس ترامب على أساس منطق “الصفقات” وصعوبة التنبؤ بما يمكن أن يقدم عليه، لكن ما يجري في العلاقات الجزائرية الأمريكية يمكن قراءته انطلاقا من بعض الحسابات الأمريكية التي تشمل من ناحية رؤية ترامب ومن ناحية ثانية أدوار بعض المؤسسات المؤثرة في صنع القرار الأمريكي ونعني بها في هذا السياق البنتاغون ومركب الصناعات الحربية.
أولا: تشكل تحديات الأمن التي يطرحها نشاط الجماعات الإرهابية واختراقات مرتزقة الفاغنر الروسية في الساحل والصحراء قلقا كبيرا لقوات “أفريكوم”. وزادت حدة تلك التحديات بعد حرب أوكرانيا وفقدان فرنسا لنفوذها بشكل كبير في منطقة غرب أفريقيا.
وبالنسبة للبنتاغون فإن تعويض الدور الفرنسي، يتطلب الاعتماد على شركاء إقليميين وتأتي في الصدارة الجزائر التي تمتد حدودوها على مسافة حوالي أربعة آلاف كيلومتر من موريتانيا نقطة التقاء الحدود الليبية التونسية الجزائرية.
ويصنف تقرير الإرهاب السنوي الذي تصدره الخارجية الأمريكية، هذه المنطقة باعتبارها مصدر إحدى أكبر المخاطر الأمنية في العالم بسبب تمركز جماعات جهادية فيها ونشاط شبكات تهريب السلاح والبشر والمخدرات. وهي تشكل تحديا ومخاطر أمنية على موارد الطاقة ووارداتها نحو أوروبا، في سياق صراع جيوسياسي شرس بين الغرب وروسيا والصين على النفوذ في القارة الأفريقية.
ثانيا: يعتبر تغيير بنية التسلح الجزائري هدفا أمريكيا جزائريا مشتركا، إذ واجهت الجزائر مشاكل في تأمين الواردات العسكرية من روسيا بسبب حرب أوكرانيا كما أن عجز روسيا عن الانتصار في حربها على أوكرانيا، جعل الجزائريين يفكرون في التوجه للصناعات العسكرية الأمريكية. وثمة عامل آخر وهو حصول المغرب على تقنيات عسكرية متطورة من إسرائيل والولايات المتحدة.
وبينما تهتم إدارة ترامب بالحصول على صفقات من الميزانية العسكرية الضخمة التي تخصصها الجزائر للتسلح، تبدي الأخيرة عزمها على تحديث معداتها العسكرية اعتمادا على توقعات محللي بلومبرغ بأن يصل الإنفاق العسكري الجزائري إلى 25.1 مليار دولار في عام 2025، ضمن خطط وزارة الدفاع الجزائرية للاستجابة “للتحديات الإقليمية المعاصرة”.
ثالثا: يرى محللون بأن إدماج الجزائر في الاستراتيجية الأمريكية يشكل هدفا لصانع القرار الأمريكي. فالبلد المغاربي ذو المساحة الضخمة يتميز بموقع جيواستراتيجي بين القارتين الأفريقية والأوروبية ويتوفر على ثاني أكبر احتياط من النفط والغاز بالقارة الأفريقية ويمتلك قدرات عسكرية هي الثالثة أفريقيا. وكان هذا البلد تاريخيا متأرجحا بين الاستقلالية والانضواء في المعسكر الاشتراكي المناوئ للغرب.
ولم تنقطع علاقات الجزائر الأمنية والاستراتيجية بالقوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي كانت مؤيدا قويا لاستقلالها عن فرنسا، وتوثقت العلاقات الأمنية على مستوى الاستخبارات والتكوين والتدريب، خصوصا في فترة العشرية السوداء بالجزائر (تسعينيات القرن الماضي) وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.
لكن الدولة المغاربية ظلت تنتهج سياسة مناوئة للسياسة الأمريكية في عدد من الملفات الإقليمية والدولية، فالجزائر تعتبر أكبر شريك تجاري للصين في شمال أفريقيا وهي أول حليف عسكري لروسيا. وتعارض الجزائر السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وتعتبر الدولة العربية الوحيدة المتبقية مما كان يطلق عليه “جبهة الصمود والتصدي”.
وبرزت في السنوات القليلة الأخيرة في صدارة المناوئين لاتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والدول العربية. إذ ترفض الجزائر إقامة علاقات مع إسرائيل قبل تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
كيف يمكن أن يؤثر التوافق الأمريكي الجزائري إقليميا؟
يرى محللون بأن التفاهم الجزائري الأمريكي ورغم أنه ما يزال في طور محدود ولم يرق إلى مستويات الشراكة الاستراتيجية والتحالفات التي تربط الولايات المتحدة عبر معاهدات بكل من المغرب ومصر وتونس، يمكن أن يكون له تأثيرات على بعض الملفات الإقليمية.
يوجد دفع مسار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية في صلب أولويات إدارة ترامب، ويرى محللون بأن هدف واشنطن سيكون في حده الأدنى (على الأقل) تحييد الدور السلبي الذي يمكن أن تقوم به الجزائر إزاء خطط اتفاقيات أبراهام مع دول عربية أخرى في شمال أفريقيا (تونس وموريتانيا) ودول الخليج العربي. وكهدف أمريكي أكثر طموحا: الضغط على الجزائر لجذبها لشكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل.
ويأتي كبح الدور الروسي في صراعات ليبيا ومنطقة الساحل في صلب أولويات إدارة ترامب وخصوصا البنتاغون الذي يسعى لتوظيف التقارب مع الجزائر لتعميق الفجوة بينها وبين روسيا وتوظيف الاتفاقيات الأمنية بين “أفريكوم” والجزائر للاعتماد على هذه الأخيرة كحاجز أمام تمدد اختراقات الفاغنر في المنطقة.
ويأتي ملف الصحراء في صلب الملفات الإقليمية المرشحة للتأثر بالتقارب الجزائري الأمريكي، إذ يمكن لهذا التقارب أن يساهم في كبح أي خطوات جديدة قد تقدم عليها واشنطن باتجاه حشد موقف دولي حاسم لتسوية النزاع على قاعدة المقترح المغربي بإقامة حكم ذاتي.
ويمكن لمراقب أن يتساءل في هذا السياق، هل يكون هذا الملف أصلا في أولويات إدارة ترامب؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل سيتجاهل ترامب الانتظارات الجزائرية ويمضي في دعم قراره السابق بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء؟
وهل تسعى الديبلوماسية الأمريكية لتوظيف نفوذها على الخصمين المغاربيين لتحقيق اختراق باتجاه التقارب بينهما ودفعهما لتسوية الخلافات أم أن السياسة الأمريكية ستظل وفية لنهجها التاريخي بجني مكاسب براغماتية من تناقضات المتنازعين؟
وفي ملف إقليمي آخر، ستحاول الجزائر توظيف تفاهماتها مع إدارة ترامب كورقة للضغط على الشركاء الأوروبيين في المفاوضات المرتقبة حول مراجعة اتفاقيات الشراكة. وتقليص أي خسائر محتملة في التوترات القائمة بين الجزائر وفرنسا أو إسبانيا.
ولأن ملف الصحراء الغربية يشكل هاجسا رئيسيا في أجندة السياسة الجزائرية، فهو موجود في صلب التجاذبات في العلاقات الأوروبية الجزائرية. إذ تضع الجزائر ضمن أهدافها محاولة الضغط على العواصم الأوروبية -خصوصا باريس ومدريد- التي يمكن أن تدعم موقفا أوروبيا مشتركا لتسوية نزاع الصحراء على أساس المقترح المغربي بإقامة حكم ذاتي موسع في الإقليم.
ولوحظ في المقابل أن الجزائر تسعى لتعزيز علاقاتها مع إيطاليا جورجيا ميلوني المقربة من إدارة الرئيس ترامب، وتوسيع الشراكة الكبيرة القائمة مع روما في مجال الغاز والنفط عبر مشاريع جديدة للهيدروجين الأخضر لتشمل ألمانيا التي تؤيد مقترح إقامة حكم ذاتي بالصحراء لكنها تنتهج سياسة حذرة في الصراع بين الجزائر والمغرب.