الجزائر- المغرب ..ماذا تفعل القطيعة بالجيل الجديد؟
منصف السليمي, في “DW”:
تمر اليوم ثلاثون عاما على قرار الجزائر إغلاق حدودها مع المغرب، ضمن أزمة مزمنة في العلاقات بلغت ذروتها بقطيعة دبلوماسية وباتت تُنذر بالأسوأ. فماذا كانت تأثيراتها على الجيل الجديد في البلدين؟
منذ إعلان الجزائر في صيف 2021 قرارها بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، واختيارها لذلك ذكرى إغلاق حدودها مع جارتها الغربية، في الرابع والعشرين من أغسطس/آب 1994، يتداول الخبراء سيناريوهات عديدة لاحتمالات تطور علاقات البلدين، وضمنها سيناريو نشوب حرب بين الشقيقين الغريمين.
أحدث تلك السيناريوهات، رسمها كتاب جديد صدر مؤخرا في فرنسا لمؤلفته الخبيرة الاستراتيجية، ألكسندرا سافيانا، ووضعت فيه اندلاع حرب بين الجزائر والمغرب ضمن خمسة سيناريوهات لصراعات مسلحة وخطيرة في العالم، وكيف يستعد لها الجيش الفرنسي في حال نشوبها خلال السنوات الخمس المقبلة: ماذا سيحدث لو غزت روسيا دول البلطيق؟ وماذا لو دخلت الجزائر في صراع مع الرباط؟ أو إذا سقطت مالي في أيدي الجهاديين؟ وماذا لو حاصرت الصين تايوان؟ أو قامت إسرائيل بقصف إيران بسبب اقترابها من إنتاج قنبلة نووية؟
فماذا يعني تداول هكذا سيناريو في المنطقة المغاربية بالنسبة للجيل الجديد من الشبان الجزائريين والمغاربة الذين رأت أعينهم النور ووجدوا حدود بلديهما مغلقة، وكيف يمكن تصور ردود فعلهم وهم الذين يعيشون منذ سنوات في أجواء متوترة وحرب إعلامية ودبلوماسية ضروس؟
حصيلة كارثية
تكشف قراءة فاحصة لحصيلة علاقات الدولتين بعد حوالي سبعة عقود منذ الاستقلال، أن حدود البلدين ظلت (وما تزال) مغلقة طيلة 48 عاما (63-69، 76-88، من 1994إلى الآن)، وبأن قطع العلاقات الدبلوماسية دام حوالي ربع قرن. كما تسببت النزاعات الحدودية بين البلدين في نشوب حربين كبيرتين (الرمال 1963 والصحراء 1975).
ويتكبد اقتصاد البلدين خسائر سنوية بعشرات المليارات من اليوروهات بسبب القطيعة، أي ما يعادل 2 إلى 3 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي. وبينما كان التبادل البشري بين البلدين يقدر في بداية التسعينيات بمليوني شخص سنويا، فإن حصيلة عدد الزوار بين البلدين خلال ثلاثين عاما لم يتجاوز العدد الذي كان يتحقق في عام واحد قبل إغلاق الحدود.
ويشكل ملف الصحراء اليوم بؤرة توتر رئيسية تساهم في تعميق القطيعة بين البلدين، فهي الورقة التي تستخدمها الجزائر تاريخيا في مواجهة الشقيق “الغريم”، وعلى امتداد عقود ظلت الجزائر تتمسك بموقفها الداعم لمبدأ تقرير المصير في الصحراء، وتقول إنها طرف مراقب في النزاع الذي يوجد تحت رعاية الأمم المتحدة، وترفض الخوض مع المغرب في طبيعة الدعم الذي تقدمه لجبهة البوليساريو. بينما يرى المغرب أن هذه المسألة هي مربط الجمل؛ إذ أنه لولا الدعم العسكري والديبلوماسي والإعلامي الجزائري لجبهة البوليساريو منذ خمسة عقود لأمكن تسوية النزاع وفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة، حسب وجهة نظر الرباط. ويراهن المغرب على تسوية النزاع اعتمادا على خطة حكم ذاتي موسع طرحها منذ بضع سنوات، ورفضتها جبهة البوليساريو.
وبعد عقد ونيف من إخفاق خطة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء تقرير المصير بالصحراء الغربية، وتعثر محاولاتها بتنظيم حوار بين أطراف النزاع يفضي إلى تسوية سياسية في إطار الشرعية الدولية. ضاعف المغرب جهوده ومكاسبه الدبلوماسية والسياسية إقليميا ودوليا، والاقتصادية على الأرض باتجاه إنهاء النزاع بناء على خطة الحكم الذاتي. بينما تكرس الجزائر جهودا مضادة لإعادة الأمور إلى “نقطة الصفر” التي وصل إليها الصراع قبل عقدين، أي قبل تبني مجلس الأمن الدولي لمقترح الحكم الذاتي كأرضية للتسوية. وذلك بموازاة نزعة تصاعدية في التسلح وإغلاق باب الوساطات والحوار وتأكيد الجزائر على الأهمية المتزايدة لملف الصحراء بالنسبة لأمنها القومي.
وفي ظل متغيرات دولية متسارعة، باتت الأزمة المزمنة في العلاقات الجزائرية المغربية عنصرا يكاد يكون ثابتا في تعطيل محاولات الاندماج وفي تكريس الانقسام بين الدول المغاربية، وتفكيك الإتحاد المغاربي وفي تعميق حالة الاستقطاب الدولي بين القوى المتنافسة على النفوذ في المنطقة، وفي تغذية السباق على التسلح، وهو الأمر الذي يضاعف المخاوف لدى مراقبين من احتمالات تطورالنزاع الإقليمي المزمن إلى حرب مدمرة.
حرب يبدو أنها حتى إن لم تحدث بمدلولها الكلاسيكي، فإن ما يجري على الأرض بين البلدين من صراع يأخذ في كثير من مظاهره أبعاد حرب هجينة تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية والاستخباراتية والسيبرانية، وتلقي بأجوائها السلبية ومخاطرها على جيل الشباب.
دور شبكات التواصل الاجتماعي
في ظل حدود مغلقة وقطيعة دبلوماسية، قفزت شبكات التواصل الاجتماعي إلى سطح التأثير في أجواء العلاقات بشكل ملحوظ. ويتم استخدامها بشكل مكثف في اتجاهات الصراع الإعلامي والسياسي بين البلدين، ويمكن رصد مظاهر سلبية في هذا الاتجاه:
أولها: انخراط فئات واسعة من الشباب بحكم البنية الديمغرافية لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.
ثانيا: ظاهرة الحملات الإلكترونية المنظمة على منصات التواصل الاجتماعي، فيما يعرف بحملات “الذباب الأزرق” وترجيح خبراء بأن روبوتات تُستخدم في تلك الحملات، ومن الوارد أنه يتم في الآونة الأخيرة تعزيزها بتقنيات الذكاء الاصطناعي. وهي حملات متبادلة لا تقتصر على فضاءات التواصل الثنائي بين البلدين، بل يتسع مفعولها إلى فضاءات إعلامية على النطاق الإقليمي والعالمي. كما توجد مؤشرات على دخول مؤثرين من خارج البلدين على الخط.
ثالثا: اتساع نطاق مجالات التأثير من الأصعدة الإعلامية الكلاسيكية إلى فضاءات مجتمعية واسعة باستقطاب مؤثرين جدد مثل صانعي المحتوى ونشطاء المنصات الاجتماعية واقتحام فئات اجتماعية أوسع مثل قطاعات الشباب والرياضة والجامعات والفن، يتم توظيفها في حملات عداء وكراهية.
ورغم كل هذه المستجدات السلبية، إلا أنه يصعب بحسب علماء الاجتماع تقييم مدى عمق تأثيراتها من الناحيتين الكمية والنوعية، بسبب غياب دراسات دقيقة وموضوعية. إلا أن ما يلفت نظر محللين هو ارتفاع أصوات ومبادرات عديدة تؤشر إلى انخراط فئات من شباب البلدين ترغب في مزيد من التعارف وبعضها يكافح لتحقيق التقارب بين الشعبين والحفاظ على الأواصر التاريخية والثقافية التي تربطهما. ويمكن رصد ذلك عبر منصات عديدة على الانترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، مثل مبادرات تدعو لفتح الحدود وتنظيم لقاءات افتراضية ومنصات مرتبطة بأندية رياضية.
وإثر قرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية، ورغم أجواء التصعيد الإعلامي والديبلوماسي التي رافقته في البلدين، أطلق مثقفون ونشطاء مجتمع مدني مغاربة وجزائريون هاشتاغ “خاوة خاوة ماشي عداوة” (إخوة إخوة وليس أعداء). كما وجه الكاتب الجزائري أمين الزاوي إبانها نداء إلى النخب والمثقفين من البلدين ناشدهم فيه إلى “عدم صب الزيت على النار”. وفي مقال له نشر على موقع “اندبندت عربية” بتاريخ 26 أغسطس/ آب 2021 يومين بعد إعلان قطع العلاقات مع المغرب، اعتبر الزاوي أن موقف المثقف “يكون من مدخل آخر هو مدخل صناعة الجسور، لا القبور”، في تحذير منه لمخاطر نشوب حرب جديدة بين البلدين. وأعقب ذلك مبادرات عديدة تدعو للتقارب سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو لقاءات مباشرة.
شباب يتحدّى الحواجز
يعتبر التنقل بين البلدين احدى المعضلات التي تواجه ملايين الأشخاص سواء من سكان المناطق الحدودية أو الأهالي الذين لديهم ذويهم وعائلات على الجانب الآخر من الحدود، وصولا إلى الفئات الاجتماعية والاقتصادية التي تربطها مصالح عمل أو إقامة أو غيرها.
ومن الناحية القانونية فإن قرار إغلاق الحدود البرية هو بالأساس قرار جزائري، اتخذته ردا على قرار الرباط بفرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين إثر حادث اعتداء إرهابي وقع في فندق سياحي كبير في مراكش في صيف 1994. وبعد قرار قطع العلاقات الدبلوماسية وحظر الطيران على الطائرات المغربية (بما فيها المدنية) في الأجواء الجزائرية، بات الأمر أكثر تعقيدا بسبب توقف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين.
ورغم كل هذه الحواجز وما يرافقها من توترات سياسية وإعلامية، يمكن رصد بعض المؤشرات حول إقدام عشرات الآلاف وخصوصا منهم الشباب على تبادل الزيارات في البلدين بأغراض مختلفة مثل الزيارات العائلية والسياحة والبحث عن فرص العمل والهجرة.
تفيد إحصاءات نشرتها منظمة السياحة العالمية بأن حوالي 300 ألف جزائري زاروا المغرب خلال الفترة ما بين 2018 و2022. وتفيد بعض التقارير الإعلامية أن معظم الزوار هم من الشباب الذين يتطلعون للتعرف على جيرانهم. وفي ظل إغلاق الحدود، يسلك الشباب الجزائري والمغربي طريقين رئيسين لزيارة البلد المجاور، أولها عبر رحلات جوية أو بحرية وبرية من أوروبا (إسبانيا، فرنسا، ألمانيا..). وثانيها عبر رحلات غير مباشرة عبر تونس.
ويشكل المهاجرون المقيمون في أوروبا نسبة مهمة من الزوار الجزائريين إلى المغرب، كما تلعب الجاليتان المغربية والجزائرية في أوروبا التي يتجاوز عددها أربعة ملايين نسمة، قاعدة أساسية لتلاقي شباب البلدين وتقاربه، ويلعب دورا مؤثرا في نسيج العلاقات الاجتماعية والإنسانية والتي تصمد نسبيا في مواجهة الحواجز المتزايدة بين البلدين.
كما تشير بعض التقارير الإعلامية إلى أعداد الجزائريين المقيمين في المغرب بغرض العمل أو الاستقرار لأسباب مختلفة، يناهز عشرات الآلاف. وبالمقابل لم تمنع أجواء التوتر آلاف المغاربة من الإقامة والعمل في الجزائر؛ إذ تفيد شهادات من مغاربة يقيمون في الجزائر وجزائريين يقيمون في المغرب، بأنهم يتلقون معاملة طيبة وأنهم يشعرون بالترحيب، مما يؤشر إلى حاضنة اجتماعية وشعبية متجذرة في المجتمعين. وربما تعبر عنها بعمق عبارة “نباضاديكم” التي تبادلها الممثلان الجزائري عبد القادر السكتور وزميله المغربي حسن الفذ في مسرحية مشتركة لهما، والعبارة مقتبسة من اللغة الأمازيغية وتعني “نحبكم”. وهي العبارة التي لقيت تجاوبا كبيرا من الجمهور في مهرجان فني بمراكش ويتم تداولها على نطاق واسع في شبكات التواصل الإجتماعي.
خطر محدق
رغم وجود مبادرات ومحاولات للتواصل وتبادل الزيارات بين البلدين لا يمكن الحديث عن زخم شبابي في هذا الاتجاه، بسبب هيمنة أجواء وحملات شرسة من الكراهية والتنمر والتنافس الذي يتجاوز قواعد الاحترام المتبادل. وإلى حدود سنوات قليلة ماضية كانت الجامعات والهيئات الثقافية غير الحكومية مثل اتحادات الكتاب والفنانين وجماعات النخب، حقلا خصبا للتبادل الثقافي والمعرفي، وشكلت على مدار عقود تلك المياه التي تسري تحت الجسر وتغذي الروابط الثقافية والمجتمعية بين البلدين.
لكن ثمة مؤشرات جديدة سلبية ظهرت بعد قرار الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية. بدأت بتوقف الوفود الفنية والثقافية عن المشاركة في التظاهرات الثقافية في البلد الآخر وتراجع دور الهيئات الثقافية في التبادل، وخصوصا من الجانب الجزائري.
ويعد قرار السلطات الجزائرية حظر مشاركة الأكاديميين والجامعيين في التظاهرات والأنشطة العلمية بالجامعات المغربية أسوأ ضربة تواجه للروابط الثقافية والمجتمعية بين البلدين، نظرا لتأثيراته السلبية المستقبلية على الأجيال الجديدة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اتخذت تدابير لتغيير مضمون مقررات تعليمية تتعلق بالتاريخ المشترك بين المغرب والجزائر، سواء في حقبة مكافحة الاستعمار أو قبلها وبعدها.
ورغم كل هذه التطورات السلبية، ثمة مؤشرات على استمرار بعض الجهود الأكاديمية والثقافية للتواصل والتبادل العلمي والفكري، مثلا عبر تنقل عشرات الباحثين الشبان بين البلدين لإنجاز أبحاث جامعية ورسائل دكتوراه.
بذور أمل؟
بعد عقود من انسداد شبه تام لقنوات التواصل الرسمي بين البلدين، وأفول دور النخب والزعامات الوطنية التاريخية، تشهد علاقات البلدين على مستوى النخب السياسية انسدادا واضحا. ويبدو أن الجيل الشاب المؤثر سواء على مستوى أجهزة صنع القرار أو على مستوى هيئات المجتمع المدني، يواجه تحديا كبيرا يمكن رصد أبرز مؤشراته في المستويات التالية:
أولا: يمكن أن يساهم غياب قنوات تواصل مباشرة بين المؤسسات الرسمية في البلدين، في تعميق الفجوات القائمة بين المؤسسات الحاسمة في اتخاذ القرار: المؤسسة العسكرية والرئاسة في الجزائر، والمؤسسة الملكية والحكومة وأجهزة الاستخبارات في المغرب.
ثانيا: يتسبب الاستقطاب الشديد بين البلدين في اصطفاف النخب بشكل متزايد وراء السياسيين والحكومات مما يؤدي إلى تراجع بل غياب أدوار موازية للشخصيات المستقلة والوازنة أو النخب المؤثرة من خارج الأنساق الرسمية. وهو ما يفسر غياب مبادرات للحوار والتفاهم حتى بين النخب الفكرية والأكاديمية.
ثالثا: تراجع التعاون والتبادل بين هيئات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات في البلدين، وغياب أجندة مشتركة لها حتى في القضايا التي كانت تشكل تاريخيا أرضية مشتركة للعمل فيما بينها، مثل قضايا حقوق الإنسان وحرية الصحافة وحرية العمل النقابي وحقوق المرأة.