الثورة السورية وضرورة تجديد البنيان
كتب علي العبدالله, في “العربي الجديد” :
بانطلاق ثورة الحرية والكرامة، مارس/ آذار 2011، شهدت الساحة السورية حراكا شعبيا واسعا وكبيرا على خلفية هذين المطلبين وفحواهما: الحرية، العدالة، المساواة، توفير حياة كريمة على قاعدة عدم التمييز بين المناطق والمواطنين، وبُذلت تضحيات كبيرة من أجلهما، تضحيات بالأنفس والممتلكات والموارد والاستقرار. غير أن الثورة لم تستمر بعنفوانها واندفاعها، فقد بدأ انكسارها في أواسط عام 2012 عندما عجزت عن تطوير ذاتها وتحسين أدائها بتوحيد قواها وتنسيق جهودها في مواجهة وحشية النظام واستخدامه كل إمكانات جيشه وكل صنوف الأسلحة لديه وانخراط قوى خارجية في الصراع إلى جانبه، إيران ومليشياتها المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، زاد عددها عن الخمسين فصيلا، وتعمّق الانكسار وتكرّس عام 2015 بدخول روسيا الحلبة بقدراتها العسكرية الكبيرة إلى جانبه، وتغيّر المناخ الإقليمي والدولي بنجاح قوى الثورة المضادّة العربية في احتواء ثورات الربيع العربي والانقلاب عليها وعكس نتائجها بتثبيت الاستبداد بوجوه جديدة، وتغيّر مواقف دول مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” وتبنّيها سياسة إدارة أزمة لإنضاج شروط تدفع النظام لتغيير سلوكه في ضوء تقديرها عدم قدرة قوى الثورة على تشكيل بديل ناجح وعدم وجود قوى سياسية قادرة على ملء الفراغ ما يجعل إسقاطه مغامرة خطرة، وقد برّر الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، عدم دعم المعارضة السورية لإسقاط النظام بقوله إنهم “مزارعون سابقون وأطباء أسنان سابقون”، أي ليس لهم خبرة سياسية يعتدّ بها تبرّر المراهنة عليهم. وما تلا ذلك من مناورات سياسية، اجتماعات أستانة وسوتشي، قادتها روسيا لتمييع القرارات الدولية وتجويفها وإدخال مساعي الأمم المتحدة لتطبيق قرار مجلس الأمن عن سورية 2254، في دائرة مفرغة وإيجاد مناخ سياسي وعسكري في مناطق خفض التصعيد الأربع، لإعادة سيطرة النظام على المساحات التي سيطرة عليها فصائل المعارضة المسلحة، ونزوح ملايين السوريين وهجرتهم تحت وابل القنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء والأدوية، وسيطرة قوى الأمر الواقع على مساحات من الأرض السورية وتحوّل سورية إلى أربع سوريات.
لم تتراجع الثورة على الصعيدين السياسي والعسكري فقط، بل ضعفت وترهلت على خلفية عدم وجود قيادة ذاتية لها، وعدم تفاعل القيادة السياسية في الخارج مع الثوار، وتكرّس حراك ثوري محلي بقوى وخطط محليّة؛ فغدت الثورة ثوراتٍ تلتقي على تطلّعات عامة، لا تجمعها خطة واحدة أو قرار واحد، تتضامن بالبيانات والتصريحات الإعلامية، وتتسابق على الموارد وتتصارع على الدعم الخارجي، فتُضعف بعضها وتقلّص هامش تحرّكها وفرص انتصارها، وتسير قوى الثورة وأحزاب المعارضة في مسارين متوازيين، بسبب غياب التفاعل والتلاقح قبل انطلاق الثورة، وبسبب تجنّب الأحزاب الانخراط المباشر في الحراك الثوري خوفاً على كوادرها من القتل والاعتقال، وبسبب إحباط الثوار ويأسهم من الأحزاب التي غادر معظم كوادرها البلاد إلى المهاجر البعيدة، ونصّبوا أنفسهم متحدّثين باسم الثورة أو ممثلين لها، كما بسبب تأثير خسائرها الكبيرة ووقوع قواها تحت تأثير دولٍ وقوى خارجيةٍ وظفتها مرتزقة لخدمة مصالحها في سورية وجوارها.
تُواجه قوى الثورة وأطرها السياسية معضلة مركّبة بدءاً من تمسّكها بسرديّتها الأولى عن الثورة، وعدم أخذها بالاعتبار التغيرات في المشهد السياسي
لقد غدا المشهد السياسي مع مرور الوقت أبعد ما يكون عن ثورة مستمرّة، فتوازنات القوى فيه تشي بخروج القرار الوطني من أيدي الثوار والأطر السياسية التي تصدّرت المسرح السياسي، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والحكومة المؤقتة وهيئة التفاوض، فالمساحات التي خرجت عن سيطرة النظام خضعت لقوىً لا تعتدّ بالإرادة الشعبية، ولا تأخذ تطلعاتها وطموحاتها بالتقدير والاحترام، ولا تقيم اعتبارا للأطر السياسية المعترف بها دوليا، حيث غدت كلمة “المحرّر”، كما يطلق أتباع هيئة تحرير الشام على إمارتهم، لا تحمل الدلالة التي تنطوي عليها المفردة في ظلّ عدم وجود قبول شعبي عام والقمع والقسر والاستحواذ على خيرات المنطقة الذي تنفّذه أجهزة “الهيئة”، والمساحات التي تسيطر عليها فصائل معارضة مسلحة في عفرين وجرابلس وراس العين وتل أبيض خاضعة للنفوذ التركي ودورها فيها حراسة هذا النفوذ مقابل الراتب الشهري، وانفراد “الإدارة الذاتية” بحكم شمال شرق سورية من دون استشارة ساكنيه، فرضت عليهم تصوّراتها وخياراتها من دون احترامٍ لرأيهم أو أخذ تطلّعاتهم بعين الاعتبار.
التظاهرات والمطالب الجذرية ليست وصفة كافية لإطلاق ثورة ونجاحها
لقد شهدت ساحات عديدة تحرّكات شعبية كبيرة، وقفات احتجاجية في عفرين وأعزاز والباب ضد تسلّط فصائل مسلحة على المواطنين والاستيلاء على أملاكهم وأرزاقهم أو الاعتداء عليهم وحجز حرّيتهم، وانتفاضة السويداء التي قاربت دخول شهرها الثامن رغم الظروف الصعبة ومحاولات النظام إحباطها وإجهاضها عبر بذر الشقاق وزرع الفتن بين أبناء المحافظة، وعبر معاقبة المحافظة في قوتها وخدماتها المستحقّة، والاحتكاكات العنيفة بالمتظاهرين السلميين، وتظاهرات في محافظة إدلب، بما في ذلك مدينة إدلب مركز المحافظة، ضد هيئة تحرير الشام، ضد زعيمها وجهاز الأمن العام فيها، وتظاهرات واسعة في ساحات ومواقع كثيرة في ذكرى انطلاق ثورة الحرية والكرامة أجّجت العواطف والمشاعر، وبعثت لدى بعضهم آمالا بانبعاث الثورة واستعادة ألقها. تحرّكات تشي ببقاء نار الثورة تحت الرماد واستعداد المواطنين لمواجهة الظلم والفساد، لكنها تحتاج ما هو أكثر من التظاهر والاحتجاج، تحتاج لتنظيم الصفوف وتحديد المسؤوليات والمواقع بحسب القدرات والخبرات والاستعانة بخبراتٍ شقيقةٍ وصديقةٍ لوضع خطّة تحرّكٍ مدروسةٍ تتّصف بالمعقولية والعملية، كي تكون جاهزة لمواجهة النظام وحلفائه. صحيح أن النظام متهالكٌ ويقف على الباب الأخير، لكنه لن يذهب إلى تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، لأنه ليس حرّاً للانخراط في مفاوضاتٍ جادّة للخروج من المستنقع، فروسيا وإيران هما من تحدّدان له قراراته وخياراته وفق حساباتهما ومصالحهما، فالاحتلالان، الروسي والإيراني، عقبة كبيرة في طريق المفاوضات والتحرّك على طريق الحل السياسي ما يجعل مقاومتها بكل الطرق المشروعة لطردهما من الأراضي السورية واجبٌ رئيسٌ للثورة والثوار.
تُواجه قوى الثورة وأطرها السياسية حالياً معضلة مركّبة بدءاً من تمسّكها بسرديّتها الأولى عن الثورة، وعدم أخذها بالاعتبار التغيرات في المشهد السياسي وافتقارها لتصور للمرحلتين الراهنة والآتية بتطوّراتهما وتفاعلاتهما، خصوصا وأن تعويلها على التظاهرات التي خرجت في ذكرى الثورة كرافعة لتجديد الثورة لا يستند إلى قراءة واقعية. … نعم التظاهرات تقوم بها حواضن الثورة لكنها لن تحدث تأثيرا وازنا في المعادلات السياسية والتوازنات المحلية والإقليمية والدولية ما لم تكن معزّزة بعوامل أخرى: قيادة سياسية واعية وموحّدة وخطة مدروسة وقابلة للتنفيذ وفعاليات سياسية واقتصادية واجتماعية تؤطر حواضن الثورة والتجمّعات السورية المتناثرة وتحل بعض مشكلاتها اليومية والمعيشية والخدمية، خصوصاً في مخيّمات النزوح، فالتظاهرات والمطالب الجذرية ليست وصفة كافية لإطلاق ثورة ونجاحها، مرورا بتطوير السردية الأصلية للثورة وتعزيزها بأفكار جديدة وأدوات عمل مختلفة لإدارة الصراع مع النظام وحلفائه، بما يعيد الاعتبار للعامل الداخلي السوري، وصولاً إلى عدم التعويل على الإعلانات الخارجية، كالبيان الرباعي الأميركي البريطاني الألماني الفرنسي، فهذا الإعلان مرتبط بالصراع مع روسيا وإيران أكثر من ارتباطه بدعم الحراك السوري.