رأي

التواصل الإستراتيجي مع العالم.. الصين نموذجًا

كتب د. أحمد قنديل في صحيفة بوابة الأهرام.

كان عليَّ، وأنا أدخل قاعة مؤتمر “فهم الصين 2025” في مدينة جوانجتشو الصينية، أن أستعيد ذلك الشعور الذي يراود المرء حين يخطو إلى مكان يعرف مسبقًا أنه سيترك أثرًا في رؤيته للعالم.

ليس لأن المدينة تضج بالحياة، ولا لأن المؤتمر استقطب وجوهًا من كل قارات العالم (حوالي 700 مشارك)، بل لأن الصين نفسها كانت تتحدث، لا من خلال كلمات رسمية، بل من خلال حضور هادئ واثق يعرف ما يريد قوله للعالم.

شعرت منذ اللحظة الأولى أن هذا المؤتمر ليس جلسة أكاديمية بل منصة أرادت الصين عبرها أن تصحح الصور الخاطئة عنها، وترد على الأسئلة، وتعرض روايتها كما تراها هي، لا كما يُروى عنها.

في أروقة المؤتمر، كانت النقاشات الجانبية والجلسات المغلقة تقول الكثير؛ فالصين لم تعد تنتظر أحدًا ليمنحها مكانًا على الطاولة الدولية، بل هي الآن التي تصنع مائدتها الخاصة وتدعو الآخرين للجلوس عليها.

المنظمون، من المعهد الصيني لاستراتيجية الابتكار والتنمية والمعهد الصيني للشئون الخارجية وحكومة بلدية جوانجتشو، كانوا يتحركون بثقة تشير إلى أن بكين تدرك حجم سوء الفهم الدولي تجاهها، خصوصًا في سياق المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وأنها تريد، وعلى طريقتها الهادئة، أن تقدم سرديتها الخاصة للعالم.

في الجلسات العامة والأكثر ازدحامًا، برزت الخطة الخمسية الخامسة عشرة كأنها وثيقة سياسية كبرى، لا مجرد برنامج اقتصادي.

وكان واضحًا للجميع أن الصين تريد الانتقال من “النمو لأجل النمو” إلى “التنمية ذات الجودة”، وأنها تسعى لصياغة اقتصاد جديد يقوم على الابتكار، والطاقة النظيفة، والتكامل العميق بين الاقتصادين الرقمي والحقيقي.

ما لفت انتباهي حقًا هو أن الخطة طُرحت كوثيقة قابلة للتفاعل مع العالم، وكأن بكين تقول للدول، خصوصًا في الجنوب العالمي: هذه تجربتنا، خذوا منها ما يناسبكم، فالتحديث ليس وصفة واحدة، بل طرق متعددة تتلاءم مع ظروف كل دولة.

وفي الجلسات الخاصة بشأن التحديث الصيني كانت النقاشات مختلفة؛ حيث تحدث الخبراء عن تحديث لا يقلد الآخرين، ولا يطلب منهم تقليده، وتحديث يراعي التفاصيل الصغيرة التي تصنع “فارقًا حقيقيًا” في حياة الناس، مثل: الصحة، ونهضة الريف، وجودة الحياة، والقدرة على جعل التكنولوجيا وسيلة لخدمة المجتمع لا غاية في حد ذاتها. وبدا النموذج الصيني في التنمية والتحديث أقرب إلى رؤية اجتماعية واسعة لا تقتصر على مؤشرات الاقتصاد، بل تلتفت إلى الإنسان كجزء من معادلة التقدم.

وفي جلسات العلاقات الدولية في مؤتمر “فهم الصين 2025″، كان واضحًا أن الصين تراهن على الجنوب العالمي. ليس من باب المساعدات أو الخطابات، بل من باب المصالح المشتركة التي دفعت نحو توسيع مبادرة الحزام والطريق، وتعميق الشراكات مع إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ومن يستمع إلى الصينيين يدرك تمامًا أنهم يعتبرون مستقبل القوة العالمية مرتبطًا بهذه الدول بقدر ارتباطه بالدول الكبرى، وربما أكثر.

أما نقاشات الحوكمة العالمية فكانت صريحة إلى حد بعيد. سؤال كبير كان يتردد، وهو: من يحدد قواعد النظام الدولي الجديد؟ من جهتها، قدمت بكين ما تسميه “الدعوتين الكبيرتين”، وهما تعددية الأقطاب والعولمة الاقتصادية العادلة. والرسالة هنا لم تكن صدامية، بل واقعية، وتتمثل في أن العالم لم يعد يحتمل هيمنة مركز واحد، ولا يمكن أن يستمر بنظام يقرر مصير الجميع من دون مشاركة الجميع. بهذا المعنى، يمكن القول إن الصين لا تهدم النظام الدولي القائم، لكنها لا تقبله كما هو.

ثم جاءت جلسات التكنولوجيا لتضيف طبقة جديدة إلى الصورة. ومن أكثر ما أثار اهتمامي حجم التركيز على “قوى الإنتاج الجديدة”، وهي: الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، والاقتصاد الأخضر… وكل هذه الأمور لم تُطرح كمجرد أدوات تنموية، بل كلغة جديدة للتواصل بين الصين والعالم. وكأن بكين تقول للدول النامية: “إذا كنتم تخشون الفجوة الرقمية، فلدينا خبرة يمكن مشاركتها، ولدينا نماذج أثبتت قدرتها على تحويل التكنولوجيا إلى فرصة لا تهديد”.

وعندما انتهى المؤتمر وعدت إلى الفندق، كنت أنظر من النافذة إلى جوانجتشو التي لا تهدأ، وأفكر في كل ما قيل ودار. وكان الانطباع الأوضح لدي هو أن الصين لا تقدم نفسها إلى العالم كقوة تبحث عن أتباع، بل كشريك يبحث عن مصالح متبادلة. وفي هذا الإطار، لا تعتمد بكين على “الشعارات” و**”الإيديولوجيات”**، ولا ترفع صوتها، لكنها تعمل بثبات يفرض احترامه حتى على خصومها، وبلغة عملية تجمع بين الهدوء والثقة.

عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، خرجت من المؤتمر بفكرة واحدة، وهي أن فهم الصين لم يعد خيارًا، بل ضرورة سياسية لأي دولة تريد أن تعرف شكل المستقبل. فالصين تتغير، والعالم يتغير معها، شاء من شاء، واعترض من اعترض.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى