التضخم يصل الى ارقام قياسية
يستمرّ إغداقُ الوعودِ من قبل كبار المسؤولين اللبنانيين في الدولة والحكومة بقرب الانتهاء من صوغ الخطة المعدلة للانقاذ والتعافي، وبتقدُّم المباحثات التقنية الممهِّدة لاستئناف جولات المفاوضات الرسمية مع ادارة صندوق النقد الدولي قبيل نهاية هذه السنة، بينما تستمر عواصف التضخم في تقويض مقومات الحياة وتهدّد دفعاتُها الوافدة باختلالاتٍ أكثر حدة لا تقتصر تداعياتُها على البُعديْن المعيشي والاجتماعي.
فمع الانكشاف التام لأسواق الاستهلاك لتلقي الضغوط المحلية على منظومة أسعار السلع بعد النضوب التام للاحتياطات الحرة من العملات الصعبة وانحدار سعر صرف الليرة الى قعر جديد قريباً من عتبة 25 ألف ليرة لكل دولار، اندفع مؤشر الغلاء بسرعةٍ قياسية ليتماهى أكثر مع حدود الانهيار النقدي بما يشمل المنتَجات الوطنية والمستوردة معاً، بالتوازي مع عجزٍ مُتنامٍ لدى إدارات الدولة ومؤسساتها المعنية، يتفاقم بصورة مريعة بسبب الشلل الحكومي واعتكاف الموظفين عن الالتحاق بأعمالهم سوى ليوم واحد أو يومين أسبوعياً نتيجة تحليق أسعار المحروقات وأكلاف النقل والانتقال.
ولم تكن العوامل الخارجية أقلّ تأثيراً. فقد تلقّت أسواق الاستهلاك تباعاً وبشكل تلقائي، نظراً لهشاشتها البالغة عقب تفريغها المسبَق من أي قدرات مالية أو رقابية لاتخاذ إجراءات وقائية عاجلة، اللفحات الساخنة لارتفاع أسعار النفط عالمياً والارتفاعات الموازية لمجمل أسعار المواد الأولية والسلع في الأسواق الدولية المورّدة وتعثُّر شبكات الإمداد والنقل حول العالم.
وبذلك، انضمت نسب التضخم الدولية إلى العوامل المحلية ليحققا معاً موجة غلاء مستجدة يقدرها الخبراء بنحو 35 في المئة. وبالتالي تسبّبت تلقائياً باندفاع حصيلة التضخم، بعد عامين ونيّف من الانهيار، إلى معدلات قياسية تَراكُمية تماثل نحو 15 ضعفاً، لتقترب جداً من الحصيلة التراكمية لانحدار السعر الرسمي لصرف العملة الوطنية بنسبة 94 في المئة.
وفي التقديرات المدعَّمة باستطلاعات ميدانية أجرتْها «الراي»، ثمة إجماعٌ في الأوساط التجارية تترجمه الأسواق بالتحسب المسبَق لتفاعلات نقدية واستهلاكية مرتقبة من شأنها تسريع وتيرة حلول «الآتي الأعظم». فلا حدود للانفلات النقدي في ظل تنامي الضغوط السوقية على سعر صرف الليرة، وقوائم التسعير بالتجزئة باتت تتضمن إضافة أكلاف مرتفعة للنقل والكهرباء وسقوف أعلى للدولار تتعدى 25 ألف ليرة، وتُجاريها بدلات الأكلاف الطبية والاستشفائية والأدوية التي تحلّق بأجنحة دولار الأسواق الموازية البالغ حالياً نحو 24 الف ليرة، ومثلها أسعار المشتقات النفطية من بنزين السيارات ومازوت التدفئة والغاز المنزلي.
ويلاحظ خبراء ومحللون أن الأسواق بدأت تترجم عملياً توجه الحكومة الى زيادة سعر الدولار الجمركي من 1515 ليرة إلى سعر منصة البنك المركزي القريبة حالياً من عتبة 20 ألف ليرة، والزيادة المرتقبة على نسبة الضريبة على القيمة المضافة. فضلاً عن تَوَقُّعِ إدخال زيادات ضريبية عقارية وبلدية ورسوم خدمات كالاتصالات والكهرباء والمياه وسواها، وهذا ما يُتوقع إدراجه ضمن مشروع قانون موازنة العام المقبل بهدف زيادة واردات الخزينة المتهالكة، وسد جزء بسيط من فجوة الأجور في القطاع العام.
ويوضح مسؤول اقتصادي كبير لـ «الراي» أنه بمعزل عن النيات التي تحتمل الصدقية في توجهات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والفريق الاقتصادي الوزاري الذي أنجز فعلياً تقدير الخسائر المحقَّقَة وتصورات توزيعها ومعالجتها تدريجاً ضمن خطة متكاملة تنطلق من تسريع عقد اتفاقية تمويل مع صندوق النقد الدولي، فإن الوقائع الحاضرة داخلياً بتعقيداتها وتجاذباتها على أبواب استحقاق الانتخابات النيابية بعد أشهر قليلة، تشي فعلياً بتأجيج عوامل الفوضى النقدية وباختلالاتٍ أشدّ حدّة في القدرات المعيشية قد تقارب العجز التام لدى فئات اجتماعية واسعة، وبتوسُّعٍ دراماتيكي لحلقة الفقر المدقع لتشمل كامل متوسطات المداخيل التي تقلّ عن 5 ملايين ليرة شهرياً (نحو 200 دولار). علماً أن الحد الأدنى للأجور انحدر دون دولار واحد في اليوم، وتَدَنّى معه متوسط الدخل إلى نحو 125 دولاراً شهرياً.