رأي

التحشيد العسكري أو الحرب يُنتجان اضطراباً وقمعاً في روسيا

كتب  سركيس نعوم في صحيفة “النهار”:

يبدو واضحاً، بعد شهرين من مُطالبة #روسيا الغرب بضمانات أمنيّة على مدى طويل، أنّها لن تحقّق نجاحاً مهمّاً أو كبيراً. وبعد وعدها شعبها بردٍّ عسكريّ – تقني إذا فشلت المفاوضات، بدأت حشد قوّتها العسكريّة الكبيرة على الحدود الأوكرانية. وإذا بدأ صراع عسكري فإنّ مضاعفاته ستكون ذات معنى ومغزى للسياسات الروسية الداخليّة وللعلاقات الخارجيّة في آن واحد. من الطبيعي في وضعٍ كهذا أن يزداد القمع وأن تحقّق “القوى المحافظة” ربحاً كبيراً. هذا ما تقوله باحثة روسية في مركز أبحاث أميركي جدّي جدّاً ومرموق. وإليه تُضيف أنّ البعض يعتقد أنّ الحرب قد تتسبّب باضطراب داخلي في روسيا. ذلك أنّ العقوبات الغربيّة القاسية وازدياد الإنفاق العسكري سوف يزيدان الوضع الاجتماعي الاقتصادي سوءاً ومعه خطر فقدان السلطات السيطرة، إذ من شأن ذلك زيادة الاحتجاجات وجعل المعارضة المن داخل النظام أكثر راديكاليّة وإثارة الصراع داخل النخبة الحاكمة.

رغم أنّ ذلك يبدو منطقيّاً هناك مزيد من الأدلّة على أنّ الأحداث قد تتطوَّر بطريقة مختلفة. فبدلاً من فقدان السيطرة فإنّ السلطات ستكون قادرة على تشديد قبضتها. وخلافاً لما حصل بعد اجتياح شبه جزيرة القرم وضمّها إلى روسيا عام 2014 فإنّ ردّ الفعل على العمل العسكري ضدّ #أوكرانيا لن ترافقه “أوفوريا” أو شعور شعبيٌّ بالسعادة والفرح الغامرين بل موجة من القمع والإكراه.

السيناريو الأخير هذا يبدو أكثر احتمالاً لأسباب قويّة ومهمّة، تلفت الباحثة نفسها. أوّلها زيادة نفوذ النخبة المحافظة والمُعادية لليبراليّة وللغرب في عمليّة صنع القرار. فالأجهزة الأمنيّة (Silovike) لا تضغط فقط على مسؤولي الكرملين لـ”إدارة” السياسات الداخليّة بل أيضاً على الديبلوماسيّين الذين يُجبَرون حاليّاً على تبنّي لغة قاسية وأسلوب مواجه، وعلى الدفع في اتجاه التصعيد. في رأي “الأجهزة” وحلفائها فإنّ انهيار المفاوضات مع الغرب وتصاعد المواجهة والعقوبات الجديدة لن تكون مشكلة. على العكس من ذلك، فإن موقع “الأجهزة” يقوى ويُعطى مزيداً من الفرص لزيادة نفوذها وسلطتها. كما أنّ أيّ تدهور عسكري سيُقوّي شعور “الطوارئ” الوطنيّة حيث توضع القوانين جانباً. فالغايات تُبرِّر الوسائل ولا مجال للتسوية مع الأعداء. من شأن ذلك جعل الرئيس، أي بوتين، يُركّز على “الأجندة” الجيوسياسيّة وعلى إعطاء “الأجهزة” مزيداً من حريّة المُناورة داخل روسيا.

لا شكّ طبعاً، تزيد الباحثة نفسها، في أنّ الحرب ستزيد العزلة وضبط الإعلام والإنترنت والضغط على شريكاته الأجنبيّة والضغط القاسي للأحزاب السياسيّة، والقمع أو الكبح سيكون أكيداً لا للأحزاب السياسيّة المُعارضة فعلاً لأنّها ضُرِبت، بل للوجوه الثقافيّة والناشطين المدنيّين غير المُسيّسين والصحافيّين والخبراء وغيرهم. والسلطات سوف تستاء من أيِّ نفوذ غير مُعاقب سواء كان عبر الإعلام أو الأغاني أو المقابلات أو المقالات. علماً بأنّ هذه العمليّة جارٍ تنفيذها حاليّاً. طبعاً لن يكون هناك من هو مؤهَّل أو مستعدّ لمواجهة جديّة لـ”سيرة” كهذه. وقد نشرت “موسكو تايمز” أنّ أحداً في النخبة التي تضمُّ رجال الأعمال ليس مستعدّاً لمساءلة القيادة علانية في حال الحرب. وهذا أمرٌ مفهوم، ذلك أنّ “البقاء” هو أفضل استراتيجيا في روسيا الحديثة.

ماذا عن آثار الوضع المشروح أعلاه على الاقتصاد والأعمال في روسيا؟

لا شكَّ في أنّ الحكومة ستزيد عبء الضرائب على “الأعمال” من جرّاء الصعوبات المالية. وهناك مبادرة حديثة قام بها “الجهاز الفيديرالي لمنع الاحتكار” وهي النظر في مصادرة حصص المستثمرين الأجانب في “الأعمال الاستراتيجيّة”. وتلك إشارة واضحة إلى أنّ الأعمال الأجنبية في روسيا ستُصبح معرّضة للخطر. لا يعكس ذلك طبعاً حاجة السلطة الروسية إلى المال حاليّاً. فالشعور السائد داخل القيادة الروسية هو أنّ في البلاد المال الكافي لمواجهة المستجدّات. وهذا ما تؤكّده وزارة المال، كما أكّده الرئيس بوتين أكثر من مرّة في أحاديثه الإيجابيّة والمتفائلة عن الوضع الحالي المرتاح لبلاده. لكنّ الاكتفاء بذلك وحده ليس كافياً، إذ ربّما يُعطي صورة مُضخّمة أكثر من اللازم عن هذا الموضوع ويحجب الأخطار. يبدو أنّ الكرملين يرغب في مزيد من الإنفاق الاجتماعي لتهدئة المزاج العام.

هل من دورٍ للمعارضة داخل روسيا؟ ركّز الكرملين منذ 2020 لا فقط على قمع المعارضة المن خارج النظام بل أيضاً على تهميش المعارضة المن داخله؟ لهذا السبب تبدو العلاقة مع الحزب الشيوعي، وهو من “معارضة الداخل”، مشدودة أكثر من السابق. لهذا السبب أيضاً يتعرّض الجناح الراديكالي فيه للضغط من جرّاء ازدياد وزنه داخل مؤسّساته. وإذا تفاقم التدهور على الصعيد الدولي فسيجد الكرملين نفسه مضطرّاً إلى تحييد الشيوعيّين بالكامل أو إلى الحدّ الكبير من نفوذهم ونشاطهم. يعني ذلك أنّ ضبط الانتخابات سيزداد وأنّ التصويت على كلّ المستويات سيُصبح دائماً حملات تأييد مُسبقة من الكرملين للمرشّحين، ولا بُدّ من أن يصيب ذلك المجتمع الروسي بانهيار سياسي عميق ومزيد من التدهور الدولي الذي تقف على حافته الآن روسيا من جهة والغربان الأميركي والأوروبي من جهة أخرى، وسيزيد ذلك الاتجاه القمعي الذي بدأ يتصاعد في الحياة العامّة داخل روسيا أكثر من السنوات السابقة. وأيّ إظهار لعدم رضى سيُسحق حتّى وإن كان من المعارضة المن داخل النظام.

أمّا على صعيد المجتمع فلا بُدّ من أن تحصل قسريّاً تعبئة وطنيّة، وذلك بعكس ما حصل عام 2014 (ضمّ القرم) عندما التفَّ الروس حول رئيسهم في صورة عفويّة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى