كتب جيلبير الأشقر في “القدس العربي”:
إن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان هي في جوهرها «كساد متعمّد… فرضته على الشعب النخبة التي حكمت البلد لوقتٍ طويل وقبضت على الدولة ووضعت يدها على ريعها الاقتصادي… ولا تزال هذه القبضة قائمة بالرغم من (1) أزمة تُعدّ… من بين الانهيارات الاقتصاديّة الثلاثة الأكثر حدة عالمياً منذ الخمسينيات من القرن التاسع عشر؛ و(2) تحرّكات شعبيّة غير طائفية وأحياناً واسعة وكثيفة. وفضّلت النخبة التمسّك بالسلطة وبريعِها ـ وإن كان هذا الأخير يتقلّص ويتلاشى بسرعة فائقة ـ ممّا يمنع التعافي من خلال الامتناع عن إدخال الإصلاحات الأساسيّة على نموذج التنمية لفترة ما بعد الحرب الأهلية الذي بات غير مستدام وفاشل».
من هم أصحاب هذا الكلام؟ من حقكما، أيتها القارئة وأيها القارئ، أن تعتقدا أنه كلام صادر عن الحزب الشيوعي اللبناني أو سواه من الجماعات التقدمية الناشطة في الساحة اللبنانية منذ انفجار «انتفاضة 17 تشرين» في خريف عام 2019. بيد أنه، في الحقيقة وهي حقاً مدعاة للعجب، كلام صادر عن الطرف الذي يُشار إليه عادة كأحد أبرز المسؤولين عن الكوارث التي حلّت وتحلّ بشعوب جنوب الكرة الأرضية. هذا الطرف هو البنك الدولي، توأم صندوق النقد الدولي، وهما المؤسستان الماليتان اللتان تتحكم من خلالهما الدول الغنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بمصائر اقتصاديات البلدان التابعة. فقد ورد الكلام المقتبس أعلاه في العدد الأخير، الصادر في الخريف الماضي، من تقرير «مرصد الاقتصاد اللبناني» وهو تقرير دوري يصدر عن فريق من باحثي البنك متخصص بلبنان.
طبعاً، يعلم كل من يتتبّع منشورات البنك الدولي أنها تحتوي بين حين وآخر على دراسات نقدية من النمط الذي يصدر عادة عن نقّاد سياسات البنك ذاته. وهي دراسات تتعلّق عادة بحكم ضعيف أو منبوذ أو حتى مخلوع، لا تخشاه إدارة البنك، وهي تحرص مع ذلك على التأكيد على أنها دراسات «لا تعبّر بالضرورة» عن رأيها، مثلما جاء في مستهل التقرير الذي ورد فيه الاقتباس. ويبدو أن المشرفين على «مرصد الاقتصاد اللبناني» قد شعروا بالشفقة على شعب لبنان المنكوب، وسمحوا لأنفسهم أن يحملوا على «النخبة» المتسلّطة على مصيره والتي، بسلوكها حيال الأزمة الاقتصادية العميقة التي أخذت بخناق سكان البلد، تؤكد يوماً بعد يوم أنها بلا رحمة وبلا ضمير، لابل بلا مشاعر أو إحساس.
البنك الدولي ذاته، مع توأمه صندوق النقد، لعبا دوراً أساسياً في ترويج السياسات النيوليبرالية، بل وفرضها على بلدان الجنوب العالمي منذ ثمانينات القرن الماضي
ومن حقّ فريق «المرصد» أن يحملوا على «النخبة» المذكورة وأن يتّهموها بالتعمّد في إحداث الكساد العظيم الذي ضرب الاقتصاد اللبناني. وهي نخبة ينطبق عليها تعريف عالم الاجتماع الأمريكي شارلز رايت ميلز (1916-1962) لما أسماه «نخبة السلطة» في بلاده، وهي مؤلفة من قِمم ثلاثة أهرام، هي الاقتصادي (في لبنان، المصارف في المقام الأول) والسياسي (في لبنان، أرباب النظام السياسي الطائفي) والعسكري (في لبنان، القوات المسلّحة النظامية وغير النظامية). فقد رفضت هذه «النخبة» ولا تزال، كافة توصيات المؤسسات المالية الدولية الداعية إلى تسوية أوضاع الاقتصاد اللبناني على حساب الذين استفادوا من النظام النيوليبرالي الفاحش، الذي ساد طوال العقود المنصرمة منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، كي يملِئوا جيوبهم على ظهور الشعب اللبناني.
لكن لا بدّ من إضافة هامة في هذا المجال، هي أن البنك الدولي ذاته، مع توأمه صندوق النقد، لعبا دوراً أساسياً في ترويج السياسات النيوليبرالية، بل وفرضها على بلدان الجنوب العالمي منذ ثمانينات القرن الماضي. وقد بلغ هذا النهج ذروته في التسعينيات، حينما انطلقت مرحلة «الإعمار» في لبنان في ظل الوصاية المشتركة السورية-السعودية، التي مثّلها محلياً عن الجانب السوري رئيس الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان، غازي كنعان، وخلفه في هذا المنصب، رستم غزالة، وعن الجانب السعودي رئيس مجلس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري (من الملفت للنظر أن الرجال الثلاثة لقوا مصرعهم في ظروف مأساوية يكتنفها الغموض).
ففي عام 1997، زار لبنان رئيس البنك الدولي آنذاك، جيمس وُلفنسون، ولم يبخل مديحاً بالسياسة الاقتصادية التي كان يُشرف عليها رفيق الحريري. ومن الجدير بالذكر أن وُلفنسون توجّه بعد بيروت إلى دمشق حيث التقى حافظ الأسد. وبعد ذلك بعشر سنوات، في عام 2007، وبعد أن كانت الشراكة السورية-السعودية في الوصاية على لبنان قد انتهت بخروج القوات السورية، جاء دور بول وُلفويتس، خلف وولفنسون على رأس البنك الدولي، في كيل المديح للسياسة الاقتصادية التي كانت تنتهجها الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة، الوفي للحريرية، وكان ذلك في مؤتمر «باريس 3» للدول المانحة للبنان.
ومن المعلوم أن وُلفويتس سيئ الصيت كان نائباً لوزير الدفاع الأمريكي سيئ الصيت هو الآخر، دونالد رامسفلد، وقد أشرف مع هذا الأخير على الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003 حتى تعيينه على رأس البنك الدولي بعد الاجتياح بسنتين، لمّا تبيّن أن ذلك الاحتلال شكّل خطأً جسيماً ما زالت أمريكا تعاني من عواقبه. أما خلاصة الحديث فهي أنه، إذا كان لا ريب على الإطلاق في أن «النخبة» الحاكمة في لبنان تستحق أقصى السخط والاشمئزاز، فإن الواجب الأخلاقي يملي على من يحمل عليها من موقع البنك الدولي أن يبدأ بالاعتراف بمسؤولية المؤسسات المالية الدولية و«الدول المانحة» التي تقف وراءها في رعاية السياسات التي أدّت إلى المصيبة الكبرى التي ألمّت بشعب لبنان.