البدائل التركيّة إزاء تطوّرات الحرب في غزة.
كتب سمير العركي في الجزيرة.
ربما هي المرَّة الأولى في تاريخ الصراع العربيّ- الإسرائيلي، الذي تجدُ فيه تركيا نفسَها في قلبِ الصراع، بل على مسافة قريبة للغاية من تداعيات الجولة الحالية، التي بدأت من غزّة بعملية “طوفان الأقصى”، والمرشّحة للتوسّع على حساب بلدان أخرى في مقدّمتها لبنان.
كثيرون انتقدوا استجابة الرئيس رجب أردوغان، للأزمة قياسًا على مواقف سابقة، آخرها – على سبيل المثال- ما حدث عام 2018، حيث تمَّ طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، والقنصل العام من إسطنبول.
هذا الانتقاد يعكسُ في أحد معانيه، مكانةَ تركيا خلال آخر عشرين عامًا في ضمير ووعي الشعوب العربية، وما باتت تنتظره منها، قياسًا بالماضي، لكنه يغفُل – ربما بسبب المجازر التي تشهدها غزة على مدار اليوم – اختلافَ طبيعة هذه الجولة، وأنّه من الصعب أن تنتهي مثل الجولات السابقة، إذ إنَّ النتائج الجيوإستراتيجيَّة المرتقبة لهذه الجولة هائلة، وستحدّد شكل النظام العالمي الجديد الذي يتشكّل منذ فترة.
لذا كان واضحًا منذ البداية أنّ تعامُلَ أنقرة مع الأزمة سيكون أكثر هدوءًا، وأشد فاعليّة؛ لأنّها بكل بساطة في قلب الأزمة.
وقف الحرب والتحذير من الاجتياح البري
في حوارِه المهم مع شبكة TRT يوم 20 أكتوبر الجاري، أكَّد وزير الخارجيَّة، هاكان فيدان، أنَّ ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة “جريمة بحقّ الإنسانية دون اختلاق أعذار”. ثمَّ عاد في اليوم التالي- وخلال كلمته في مؤتمر القاهرة للسلام- ليؤكّد إدانة تركيا المذابحَ التي تحدث للشعب الفلسطينيّ في غزّة، داعيًا إسرائيل إلى التوقّف عن ذلك فورًا.
وفي مقابل الهجوم الوقح الذي شنّته الوفود الأوروبية المُشاركة في المؤتمر ضد حركة حماس، وعموم المقاومة، ركَّز فيدان في كلمته على فضح الممارسات الإسرائيلية، محذّرًا من اتساع نطاق الحرب لتشمل الإقليم بأكملِه، ما سيكون له تداعيات كارثيّة على مجمل الأمن والسلم الدوليَين.
وإزاء ما يحدث، دعا وزير الخارجيّة التركيّ، إلى وقف العدوان الإسرائيلي فورًا، وإدخال المُساعدات إلى قطاع غزّة، واعتماد حلِّ الدولتين من خلال الاعتراف بدولة فلسطينيّة مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية.
هنا يجب التذكير بأنَّ الإستراتيجية التركية ترى أنَّ هذه الجولة من الصراع فرصة مواتية لإقرار سلام دائم، لأنَّ البديل هو الحرب المتكرّرة، أو حَسَب ما يؤكد فيدان أنه:
” إذا لم يتم اختيار مسار السلام الدائم، فإن حربًا دائمة تنتظرنا في المنطقة”، إذ تؤكد تركيا – والكلام لا يزال لفيدان – أن إسرائيل تحتجزُ قرابة 2.5 مليون شخص في سجون مفتوحة في غزّة، وأنّ هذا الوضع لن تسمح به أنقرة.
الاستعداد العسكريّ لتدهور الأوضاع
هناك انطباعٌ سائدٌ في تركيا على عدّة مستويات حزبية وبحثية وشعبية، أنَّ تركيا أحد الأهداف المحتملة للحشد العسكري الأميركي شرق المتوسط وعموم المنطقة، خاصةً بعد إرسال واشنطن حاملتَي طائرات، مدعومتَين بقطع بحرية متعددة، كما أرسلت بريطانيا إحدى حاملات الطائرات، فيما دعمت اليونان التظاهرة البحرية بسفينة حربية.
هذا التدفّق العسكري إلى المنطقة، دفع تركيا إلى إجراء مناورة بحرية في نفس المِنطقة بدأت يوم 16 أكتوبر لمدّة خمسة أيام.
فخطر الدُّويلة الانفصالية لصالح تنظيم حزب العمال PKK والذي تدعمه الولايات المتحدة بقوّة، لا يزال قائمًا، وقد تستغل واشنطن حالةَ الفوضى المتوقعة، إثر اتساع نطاق الحرب في غزة، لتمرير المشروع.
كما تدرك أنقرة أن الحشد العسكري الأميركي، وتدخلها الصريح المرتقب في النزاع حال اشتداده، لن يتوقّف على غزة، بل سيعمل على إعادة ضبط أوضاع المنطقة وَفق الإعدادات الأميركية الكفيلة بتحقيق مصالحها، وحينها لن تكون تركيا بعيدة عن تلك المخطَّطات.
لذا كان ملاحظًا هذه المرة، أنّه بينما التزم أردوغان جانب الهدوء، فإن التصعيد كان من نصيب حليفه المقرّب، زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، الذي طالب الدولة في تدوينة مفاجئة على موقع “X” يوم 21 أكتوبر بـ ” أن تُسرع بالتدخل والقيام بكل ما هو ضروري من منطلق مسؤولياتها التاريخية والإنسانية والدينية”، مؤكدًا أن إرث الدولة التركية هو “القيام بمهمة حماية غزة وحمايتها”.
هذه التّصريحات فُهِم منها أنَّ الرجل يشير إلى التدخل العسكري، وقال البعض: إنه لم يكن ليقول ذلك قبل التنسيق مع أردوغان نفسه.
تصريحات بهجلي أحدثت جدلًا واسعًا في الأوساط الشعبية والحزبية، إذ سارع رؤساء أحزاب: المستقبل، والسعادة، والرفاه الجديد، إلى تأييد دعوته، وتباحث معه أحمد داود أوغلو عبر الهاتف- في محادثة نادرة الحدوث- بشأن كيفيّة تفعيل تصريحاته وتحويلها إلى إستراتيجية معتمدة للدولة التركية.
أمّا على مواقع التواصل، فقد لاقت دعوته أصداءً إيجابية لدى المحافظين والقوميين، وقطاع من الشعب التركي، فيما حذَّرت نخب علمانيَّة يسارية من “تورّط” تركيا في الصراع على غرار ما حدث في سوريا.
التّنسيق المشترك مع دول المنطقة
قبل سنوات كادَ الخلاف بين تركيا، ومصر في ليبيا، أن يتحوّل إلى مواجهة عسكريَّة، لكن التطوّرات الدولية والإقليمية دفعتهما إلى تطبيع العَلاقات مرّة أخرى، وفتح صفحة جديدة من العلاقات وصولًا إلى الأزمة الحاليّة.
وفي تقديري أنَّ الدولتَين تمتلكان رؤية متقاربة إزاء الأزمة، وإن اختلفت آليات التّعامل ومساحات الحركة، لكنّ اجتياحًا بريًا إسرائيليًا متوقعًا لقطاع غزّة، سيفرض على الدولتَين تنسيقًا مشتركًا سياسيًا وربما عسكريًا لمواجهة آثار وتداعيات الانفجار المرتقب.
هذا التّنسيق الذي تعمل عليه أنقرة مع القاهرة من الآن، سيضمّ أطرافًا أخرى بطبيعة الحال، أهمها قطر وربما السعودية. فوحدة دول المنطقة واستمرار تماسكها، باتت على المحكّ، والبداية ستكون من غزة، لكنها لن تكون النهاية.
فالرئيس الأميركي، جو بايدن يقول إن: “الإنسانية” باتت في حاجة إلى نظام عالمي جديد، وإن بلاده هي من ستتولى ذلك التأسيس.
وهذا لعمري الخطر كله!