أبرزرأي

الانتصار والهزيمة في أزمة الجزائر مع فرنسا

كتب صابر بليدي في صحيفة العرب.

العلاقة بين البلدين محكوم عليها بالتسوية لاعتبارات متعددة، لكن المقاربة التي يتوجب التأسيس لها في العلاقة الجديدة هي ضرورة عدم عودة تلك العلاقة بنفس التصورات والآليات التي حكمتها طيلة العقود الماضية.

يتحدث مختصون في الجزائر عن خسارة شركات فرنسية لنحو 20 مليار دولار، خلال السنوات الأربع الأخيرة، نتيجة تداعيات الأزمة التي تعصف بعلاقات البلدين، لكن هؤلاء لم يتحدثوا عن خسائر الجزائر نتيجة الأزمة المذكورة، فإذا أرادوا احترام المنطق والاختصاص، يتوجب عليهم أن يذكروا التداعيات هنا وهناك، إلا إذا لم يكن للجزائر ما تخسره مع فرنسا، وهناك سيكون حديث آخر.

لا توجد علاقة دولية ملتبسة وهشة كعلاقة الجزائر بفرنسا، فمجرد هبوب رياح خفيفة تسقط أسوارها تباعا، نتيجة البناء غير الطبيعي الذي أحاط بعملية وضع أساساتها الأولى، وتغلغل الشك في أوصالها، فمرور ستة عقود على فك الارتباط لم ينه تراكمات حقبة استعمارية من أبشع الأنظمة الاستعمارية في العصر الحديث.

قفزت أرقام الخسائر إلى الواجهة دون أن تقدم تفاصيل أخرى، إلا إذا كانت من قبيل إثبات قدرة الجزائريين على إلحاق الضرر بالفرنسيين في لعبة كسر العظم، فالتبادل التجاري قدر خلال العام 2023 فقط بنحو 11 مليار دولار، الأمر الذي صنف فرنسا ضمن كبار شركاء الجزائر، فكيف تراكمت خسائر بعشرين مليار دولار خلال السنوات القليلة الماضية فقط.

ولأن العلاقة المذكورة على مر العقود الماضية لم تكن في مستوى الشفافية والرقابة اللازمتين فقد لفها الغموض، وتحول على سبيل الذكر عدم تجديد عقد لشركة عاملة إلى عقاب يمارسه ذلك النوع من المختصين لإثبات عقدة الندية في التعامل مع مستعمر الأمس، بينما الأمر لا يعدو كونه مجرد عدم تجديد عقد فقط، ومن حق المتعامل ألا يجدده، ولو كان فسخا لكلف المتعامل نفسه تعويضات قد تفوق عائداتها حجم الصفقة عند اللجوء إلى التحكيم الدولي.  

في ذروة التناغم السياسي والدبلوماسي بين البلدين، خلال حقبة الراحلين عبدالعزيز بوتفليقة وجاك شيراك، وصل عدد الشركات الفرنسية العاملة في الجزائر إلى 400 شركة، وفي المقابل لا توجد شركة جزائرية واحدة عاملة في فرنسا، وهناك من تم انتشالها من الإفلاس بفضل كرم الرئيس بوتفليقة، لأجل عيون نظرائه في الإليزيه وليس من أجل جدوى اقتصادية معينة.

ومنذ الصدمة النفطية في صيف عام 2014، والمنافسة القوية التي فرضها منافسون آخرون على السوق الجزائرية، بدأت الاستثمارات أو الفرص الفرنسية في الجزائر تتلاشى؛ لأنه في حقيقة الأمر لا توجد استثمارات، لا فرنسية ولا غير فرنسية، في البلاد. وكل ما هو موجود تشييد لاستثمارات حكومية بأموال الخزينة العمومية فقط.

فغادرت شركة تسيير المطار الدولي بالعاصمة، وشركة استغلال وتسيير المياه، والمترو.. وغيرها، بداية من العام 2019، تحت تأثير الغضب الشعبي تجاه الفرنسيين المتواطئين مع النظام السياسي القائم آنذاك، ووجدت في نهاية عقود الاستغلال فرصة لمغادرة بلد لفه الغموض حول مخارجه السياسية بسبب انتفاضة الحراك الشعبي.

لكن كيف ولماذا ربط هؤلاء المختصون خسائر فرنسا في الجزائر بالأزمة السياسية والدبلوماسية القائمة؛ فحتى لو سارت على سكة واحدة منذ العام 2020، إلا أن العديد من الفوارق في الأزمة تجعل استنتاج تلك الحصيلة انتهاكا للعقل والمنطق، فضلا عن أن هذه الاستثمارات المنتهية والتي صنفت ضمن الخسائر، لتسويق صورة لدى الرأي العام حول قدرة القيادة السياسية على إلحاق الضرر بفرنسا، يفترض أن تقابلها أضرار وخسائر في الجهة الأخرى، إذا تم النظر إلى المسألة من زاوية الحسابات الاقتصادية والمصالح.

أما إذا كان القصد من ذلك هو أن فرنسا لا تستطيع إلحاق الضرر بالاقتصاد الجزائري، فذلك تجاوز للحقيقة، أو أنه ليس للجزائر ما تخسره كونها لا تملك اقتصادا أصلا، وتلك طامة كبرى يراد من خلالها إخراج مشهد محزن وتعيس، لأن الجزائر في الظرف الراهن تحتاج إلى الوقوف على الحقائق وليس صناعة نصر وهمي.

في الغالب الأزمات مهما كانت تعقيداتها تنتهي إلى طاولة الحوار، والأزمة الجزائرية – الفرنسية مآلها التسوية، واللائق بصناع القرار حماية المصالح وإرساء التوازن وتفكيك ألغام الذاكرة والتاريخ، بدل الانغماس في خطاب انتصاري أو انهزامي، لأن الأزمة ليست معركة محكوما عليها بمنتصر ومنهزم، بل بترتيب علاقة نادرة يشوبها الشك والغموض والتداخل بين أولوياتها.

العلاقة بين البلدين محكوم عليها بالتسوية لاعتبارات متعددة ومختلفة، لكن المقاربة التي يتوجب التأسيس لها في العلاقة الجديدة هي ضرورة عدم عودة تلك العلاقة بنفس التصورات والآليات التي حكمتها طيلة العقود الماضية، بدل التسويق للخسائر وللي الذراع، وفق منطق انتصاري وهمي لا مكان له في العلاقات الدولية القائمة.

فرنسا تلوّح بفسخ اتفاقية الهجرة (1968) واتفاقية التأشيرة الدبلوماسية (2013)، وأول خطوة تعيد كرامة الجزائر والجزائريين هي المسارعة الجزائرية إلى ذلك، إذا كانت حقيقة النخبة الحاكمة تريد فك الارتباط المعنوي واللغوي والأيديولوجي مع فرنسا، لأنها هي المستفيد الأول من الاتفاقية وليس عموم الجزائريين، وحينها فقط يمكن استعادة ثقة الشارع بسلطته، ويمكن التأكيد للفرنسيين على أن الجزائريين قادرون على التغريد خارج سربهم.  

في فرنسا سبعة ملايين جزائري، أو فرنسي من أصول جزائرية، من بينهم المهاجر القانوني والمهاجر السري، وعندما ينتقل الوطن ليعيش فيهم تتبدد مشاعر الغربة، فمتى يتم احتضانهم وتكوينهم يصبحوا القوة الضاربة خارج الحدود بكفاءاتهم وأموالهم وثقلهم، وحينها فقط يمكن الحديث عن عودة تدريجية لشروط التوازن والاعتدال في العلاقات الجزائرية – الفرنسية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى