رأي

الانتخابات الإيرانية الأكثر غرابة

كتب طوني فرنسيس, في “اندبندنت عربية” :

أصوليون نافسوا أنفسهم في استحقاقات البرلمان ومجلس الخبراء بهدف حماية النظام والتحضير لخليفة المرشد

فشلت القيادة الإيرانية في رهانها على تصويت كثيف في انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء، وحصلت على ما سماه المحلل أحمد زيد أبادي على “البرلمان الأكثر غرابة في تاريخ إيران”.

كان طموح المتحدثين باسم تلك القيادة تحقيق نسبة مشاركة تفوق 57 في المئة، فإنها جاءت أقل من ذلك بكثير، مما توقعته المؤسسة الحاكمة، وبعد ساعات على إقفال صناديق الاقتراع، حسمت وكالة “مهر” الإيرانية الرسمية الأمر، وقالت إن الحصيلة كانت في أدنى مشاركة شعبية إيرانية في الانتخابات العامة منذ ثورة الخميني في 1979.

حجم المشاركة كان المقياس الذي وضعه المرشد وحكومته منذ البداية لنجاح الاختبار الشعبي من عدمه، والتصويت الكثيف يعني التزاماً ودعماً شعبياً للنظام، وتضاؤل المشاركة في الانتخابات تعني أن مسيرة التخلي عن النظام ورفضه التي شهدت محطات بارزة في انتفاضات 2019 و2022 بدأت ولا رجعة فيها .

كان التخويف من عدم اهتمام الناخبين بالعملية الانتخابية بلغ ذروته عشية الموعد المحدد في الأول من مارس (آذار) الجاري، واعتبر المرشد وحاشيته المشاركة فيها موقفاً من أميركا وإسرائيل، وكان ذلك اتهاماً ضمنياً للمنتقدين والمتغيبين بأنهم يخدمون “العدو”.

محمد حسن أصغري رئيس لجنة الشؤون الداخلية في البرلمان نصح بالتصويت للمرشح الذي يتمتع “بالتدين والخبرة والتجربة والالتزام”، وأكملت صحيفة التلفزيون الرسمي أن الهدف عزل “أعداء إيران الذين سعوا لزرع الفتن في المجتمع بهدف التأثير في لحمته والتفافه حول القيادة”، ثم اختصر المرشد ملحاً “كل من يحب إيران عليه أن يشارك في الانتخابات”.

لم يشارك في أفضل التقديرات ما تمناه المسؤولون على رغم تمديد مهلة إقفال الصناديق ثلاث مرات حتى منتصف ليل أول من أمس، ولم ينفع ذلك كثيراً في زيادة الإقبال بهدف تخطي أرقام انتخابات 2020 ولا اقترب عدد المقترعين من نسبة 62 في المئة المسجلة عام 2016 في الانتخابات التي أعقبت توقيع الاتفاق النووي .

كانت نسبة هؤلاء بعد 10 ساعات من بدء التصويت 27 في المئة، وبلغت في طهران 12 في المئة بعد ثماني ساعات من فتح مراكز الاقتراع، قبل أن يتم تمديد الوقت المخصص للناخبين لمدة ست ساعات إضافية.

في الإجمال انتخب 25 مليوناً من أصل أكثر من 61 مليوناً يحق لهم التصويت، والحصيلة أن متشددين انتخبوا متشددين سيمسكون بسلطة فاقدة الشعبية في ظروف صعبة يعيشها الشعب الإيراني ومحطات مفصلية قد تحدد مصير النظام بأكمله .

لم تكن هذه النتائج مستغربة، فالنظام أبعد شقه المعارض ومنعه من الترشح، ولم تكن الانتخابات بين أصوليين وإصلاحيين كما جرت العادة في تصنيف الطاقم السياسي الإيراني الخميني، بل بين أصوليين وأصوليين من الصنف ذاته.

ألوف المرشحين للمقاعد النيابية منعوا سلفاً من تجربة حظوظهم، حتى إن الرئيس حسن روحاني الفائز بمنصب الرئاسة في دورتين متتاليتين أبعد عن السباق ولم يشرح له مجلس تشخيص مصلحة النظام الأسباب التي دفعت إلى استبعاده، مع أنه في تاريخ الخمينية كان أول من أطلق على الخميني لقب الإمام قبل سيطرته على السلطة بعامين.

الرئيس السابق محمد خاتمي امتنع عن الترشيح والتصوير، وقال معاونه محمد علي أبطحي إن “خاتمي فكر أن الطريقة الوحيدة لسماع كلمته الرحيمة هي عدم التصويت”، وعشية الانتخابات قالت “جبهة الإصلاحات” المعارضة التي تتمتع بدعم خاتمي إن “هذه الانتخابات مجردة من أي معنى وغير مجدية في إدارة البلاد”.

كان الإحساس بـ”التعيين المسبق” وانعدام المنافسة سبباً رئيساً في ابتعاد الإيرانيين وعدم اهتمامهم واستعدادهم لتحمل اتهامات “الخيانة” لاحقاً من قبل السلطة، لكن أسباباً أخرى جوهرية دفعت هؤلاء إلى الاستنكاف واعتبار الانتخابات مجرد “انتحابات”، على حد قول أحد المواقع الإيرانية، على وضع مزر لا أمل في تغييره عبر الاقتراع.

قبل أسبوعين شرح المؤتمر الإيراني الـ13 للصحة النفسية، الذي انعقد على مدى يومين بغياب أي مشاركة رسمية، الحالة التي تعيشها غالبية الإيرانيين، وكانت الأرقام والمعطيات التي تداولها المؤتمرون بالغة الدلالة، فقد وصل معدل انعدام الثقة في المجتمع الإيراني إلى 81 في المئة، وهذا المجتمع “مليء بالتحديات والأزمات والأمراض التي تزيد من الأمراض النفسية وحالات الانتحار”.

يقول مصطفى معين وزير الصحة السابق أمام المؤتمرين “إننا غارقون في أزمات الفقر وعدم المساواة، واليأس الاجتماعي، خصوصاً بين الشباب، والشعور بالتمييز وانعدام الأمن وحقوق المواطنة، وانتهاك حقوق الإنسان والعيش غير الآمن، وسوء نوعية التعليم”.

حول هذه النقطة الأخيرة يكشف متخصص القانون رحيم نوبهار عن أن “الخطاب الرسمي للتعليم في إيران لا يعلم الطلاب السلام، بينما السلام يخلق الأمن”، ويضيف أن “أكثر ما يتكرر في محتوى التعليم في كل مراحله هو المؤامرة والميدان والقائد وتحييد العدو، وفي تحليل النصوص الجامعية تظهر الهوية والعدو والقوة والدمار، وفي الواقع تظهر الخيالات السياسية التي يتم تدريسها للطلاب في صورة أيديولوجية”.

لا ينمو المجتمع الإيراني بصورة طبيعية، وإنما في مناخ ثكنة عسكرية يحيطها الأعداء ويعاني سكانها الجوع والإفقار والتمييز العنصري والقومي، إضافة إلى القمع ووأد حرية الرأي والتعبير، وهنا يكمن سبب ثان أساس لعدم الذهاب إلى الانتخابات التي، في رأي الجمهور، لن تغير شيئاً في سياسات خبروها جيداً وتظاهروا ضدها ودفعوا مئات الضحايا في سبيل تعديلها.

يعرف الإيرانيون الذين احتجوا على تدخل قادتهم في لبنان وغزة والمشرق العربي، خصوصاً، وغامروا بشن حرب ضد باكستان، أن الانتخابات لن تؤدي إلى تغيير في سياسة بلادهم الخارجية مثلما لم تفعل شيئاً لمعالجة الأزمات الداخلية، بعضهم يقارن بأسى بين انتخابات الملالي والانتخابات التركية، ويتساءل لماذا لا نكون مثل الأتراك؟

الهوة كبيرة ويستحيل ردمها، في تركيا الأنظمة البرلمانية المماثلة، وقد تطيح الانتخابات زعيماً أو حزباً، لكن مهمة الانتخابات الإيرانية توطيد سلطة المرشد ليس أكثر، والانتخابات التي جرت السبت مهمة جداً لعلي خامنئي نفسه، إذ إن مجلس الخبراء والبرلمان الجديدين سيواكبانه ربما في سنواته الأخيرة قبل اختيار مرشد جديد قد يكون للصدفة، نجله مجتبي الذي بدأ “مريدوه” الترويج له.

لكن مجتبي لن يكون الوحيد في سباق “المرشدية” المقبل، فالرئيس إبراهيم رئيسي يعد نفسه للمنصب، وفاز بعضوية مجلس الخبراء فيما كان يلقي خطابات نارية في قمة الغاز بالجزائر، لكن منصب الولي الفقيه الذي ابتدعه الخميني وجرب مرة واحدة بعده مع خامنئي، حسم بتعيين أراده الخميني نفسه هو الذي قال في آخر أيامه إن خامنئي سيكون خليفة له.

الآن، كانت مهمة الانتخابات تعزيز السلطة المطلقة لخامنئي، وهو على الأرجح من سيتولى ترشيح خلفه، ومنع آخرين من الترشح، تماماً كما جرى مع الآلاف الذين سمح لهم أو منعوا من التقدم إلى انتخابات مجلسي النواب والخبراء.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى