رأي

الاقتصاد الخليجي يبحر بعيدًا عن النفط

كتب د. عاطف عبدالله, في “الأهرام” :

تسعى البلدان الخليجية لاستعادة زخم النمو، رغم التحديات الناتجة عن الأزمات والتوترات السياسية والاتجاهات الاقتصادية العالمية، معتمدة في ذلك على سياسة تنويع الاقتصاد.

وتنتهج دول مجلس التعاون الخليجي أجندة طموح لتنويع ناتجها المحلي الإجمالي بعيدًا عن البترول، رغم امتلاكها لأكبر احتياطيات في العالم من النفط والغاز.

وظلت دول «التعاون» تعتمد على النفط، الذي يبلغ إنتاجها منه نحو 16 مليون برميل يوميًا، كمورد أساسي للدخل طالما كانت الأسعار مرتفعة والعائدات الحكومية من صادرات النفط متنامية.

ولكن تذبذب أسعار الخام أدى لانخفاض العائدات، وتراجع معدلات النمو نتيجة لخفض الإنفاق على المشاريع الحكومية، ما دفع تلك الدول لتبني إستراتيجيات لتنويع مواردها الاقتصادية.

القطاع غير النفطي يقود النمو

يشير تقرير البنك الدولي إلى أن القطاع غير النفطي يقود النمو الاقتصادي لدول التعاون الخليجي الست، إذ أظهر نموًا قويًا بنسبة 3.7%، مدفوعًا بشكل أساسي بجهود التنويع الاقتصادي المستمرة والإصلاحات الطموحة في جميع أنحاء منطقة الخليج.

ورغم أن هذه البلدان شهدت نموًا اقتصاديًا منخفضًا هذا العام يقدر بنسبة 1.6%، إلا أن هذا النمو يُتوقع أن يرتفع إلى 4.2% في عامي 2025 و2026، مدفوعًا بنمو القطاعات غير النفطية.

ووفق التقرير الصادر حديثًا عن البنك وتناول المستجدات الاقتصادية، أظهرت البلدان الخليجية مرونة ملحوظة في مواجهة الاضطرابات العالمية، وتحركت بثبات في أجندة التنويع الاقتصادي الخاصة بها.

ففي السعودية، أكبر اقتصاد عربي، تقود الأنشطة غير النفطية نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي التي وصلت إلى 4.6%، بل ومن المرجح أن يظل نمو القطاع غير النفطي ثابتًا عند 4.5% في عامي 2025-2026، وهو أمر بالغ الأهمية لأجندة التنويع الاقتصادي في المملكة العربية السعودية.

وفي دولة الإمارات ينمو القطاع غير النفطي بنسبة 4.1% في 2024 بدعم قطاعات متعددة منها السياحة والعقارات والبناء والنقل والصناعة.

وفي قطر سيبقى الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي مرتفعًا عند 2.3%، مدعومًا بمشاريع البنية التحتية الجديدة، وتوسيع قطاعي الصناعة والسياحة اللذان ينموان بشكل سريع.

الاستهلاك والتضخم

رغم انتعاش الأنشطة غير النفطية لتعزيز النمو، حافظت دول التعاون على معدلات التضخم منخفضة ومستقرة عند 2.1%، نتيجة الدعم الحكومي، والحد من أسعار الوقود، وربط العملات بالدولار.

وتتمتع دول مجلس التعاون الخليجي، التي تعتمد في الغالب على نظام ربط العملات بعملات أخرى، بمكانة تخوّلها تطبيق هذه التخفيضات، مما سيساعد على تقليص تكاليف التمويل، وتحسين أوضاع السيولة، ودعم الاستهلاك والاستثمار على المستوى الإقليمي.

وتوقعت دراسة صادرة عن مؤسسة برايس ووتر هاوس كوبرز أن تشهد القطاعات غير النفطية نموًا كبيرًا، نتيجةً للتطور الإيجابي في قطاعي التجزئة والخدمات، المدعومين بالسيولة القوية، ومبادرات الإصلاح المستمرة، والزيادة السريعة في الاستثمارات الخاصة والحكومية، وسوف تساعد هذه العوامل في التخفيف من تأثيرات تباطؤ النمو لدى الشركاء التجاريين الرئيسيين.

ووفق بيانات مؤشر مديري المشتريات في دول مجلس التعاون الخليجي – وهو مؤشر يدلّ على مستوى الثقة لدى الشركات وأداء القطاعات الخاصة غير النفطية – تُعتبر الاقتصادات الإقليمية بحالة جيدة إلى حد ما وتحافظ على زخمها الإيجابي.

كما حافظ مؤشر مديري المشتريات في كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على المنحى التوسّعي بشكل مستمر منذ أعقاب جائحة كوفيد-19، وهو يواصل تحقيق نتائج أفضل من المتوسط العالمي.

الاقتصاد الجديد

ولدعم واستدامة وتيرة النمو في الأنشطة غير النفطية، تعول دول مجلس التعاون الخليجي على قطاعات التكنولوجيا والطاقة النظيفة والصناعات المعرفية القائمة على الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المالية.

ففي مجال الذكاء الاصطناعي كثفت دول التعاون، استثماراتها في مبادرات البحث والتطوير التي تركّز على تطوير الذكاء الاصطناعي، وتُعتبر السعودية، والإمارات، وقطر في طليعة الدول التي تدفع إلى تبنّي التقنيات الجديدة المتوافقة مع أهداف أجندة التحوّل الخاصة بكل منها.

وفي العام المقبل، يمكننا أن نتوقّع تسارع وتيرة تبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي في المنطقة، لا سيما في قطاعات الرعاية الصحية، والمالية، والإعلام، والتقنية التي تتميز بكم هائل من البحث والتطوير وتتطلب تفاعلات متكررة مع العملاء.

ومن المتوقّع أن تنعكس تأثيرات الذكاء الاصطناعي التوليدي من خلال التحوّل الذي يطرأ على القوى العاملة وكذلك أتمتة الذكاء الاصطناعي.

فتزويد الموظفين بالأدوات اللازمة وتدريبهم على تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي يزيد من معارفهم وقدراتهم إلى حد كبير، لا سيما في المجالات التي تتطلب إبداعًا وتحليلًا للبيانات؛ فاستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في سياق البحث والتطوير، على سبيل المثال، سيمكّن الباحثين من تحليل مجموعات البيانات الكبيرة بكفاءة أكبر وبطريقة بديهية.

كما تمتلك دول التعاون الفرصة لتسريع وتيرة الاستثمارات في مصادر الطاقة الأكثر مراعاة للبيئة، فنسبة مصادر الطاقة المتجددة من إجمالي قدرة توليد الطاقة ما زالت ضئيلة للغاية، إذ تشكّل 3% فقط من إجمالي إنتاج الطاقة.

وفي هذا السياق، تتصدر الإمارات قائمة هذه الدول، إذ يتم توليد حوالي 14% من طاقة البلاد باستخدام مصادر متجددة، وهو رقم يمثّل حوالي 60% من إجمالي قدرة مصادر الطاقة المتجددة في المنطقة.

مستقبل التنويع الاقتصادي

إن جهود التنويع الاقتصادي في منطقة مجلس التعاون الخليجي بدأت تؤتي ثمارها وأسهمت إلى حد بعيد في استحداث فرص عمل في القطاعات والمناطق الجغرافية المختلفة، بدعم من الاستهلاك الخاص المستدام والاستثمارات الإستراتيجية الثابتة والسياسة المالية التيسيرية.

وحققت هذه البلدان خطوات مهمة نحو التنويع الاقتصادي وزيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي من خلال انتهاج سياسات اقتصادية مرنة ذات آفاق مستقبلية واعدة، ساعدتها على ذلك البنية التحتية المتطورة التي أقامتها في العقود الماضية.

فوفق السياسات الاقتصادية المعلنة، من المرجح أن يتنامى اتجاه التنويع في دول «التعاون» خلال السنوات القليلة المقبلة، مما يرفع مساهمة القطاعات غير النفطية إلى 70-80% في المتوسط، وهي نسبة كبيرة تقترب للنسب المشابهة في البلدان المتقدمة المنتجة للنفط، كالنرويج التي تبلغ مساهمة الأنشطة غير النفطية فيها 85%، وتشكل الصادرات النفطية نصف صادراتها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى