رأي

الاضطراب العربيّ ومسؤوليّات المتسلّطين!

كتب رضوان السيد في “اساس ميديا” : “ازعجني كما أزعج عرباً كثيرين، وربّما أصدقاء للعرب، ما حدث في البرلمان العراقي يوم الأحد في 9/1، وقبله في البرلمان الليبي، وقبل قبله ما حدث في البرلمان اللبناني، وقبل قبل قبله ما حدث من إقفال للبرلمان التونسي.. إلخ إلخ.

كلّ الوقت نتحدّث نحن وغيرنا عن التدخّلات الخارجية في أربع أو خمس أو ستّ دول عربية. إنّما بالله علينا وعليكم مَنْ أرغم الرئيس التونسي على إقفال البرلمان؟ وأين هي الحكومة العظيمة التي أمر بتشكيلها بعد لأْي؟ والطريف أنّ “الأجانب” الأشرار دأبوا على النصيحة له في مقابل المساعدات بالعودة إلى المسار العادي. وهو كان يجيبهم أنّه لا يسمح بالتدخّل في الشأن السيادي، حتى ثارت عليه النقابات بعد أن لم تعد تفهم ما هو المسار الذي اختاره، والذي زعم الأجانب الملومون أنّه ممتاز وإن كان مؤجّلاً وطويلاً. فالمهمّ القيام بأيّ شيء بدلاً من شهور الابتزازات والتهديدات والخطابات بتلك اللغة الخشبية التي تكاد تكرِّهُ المستمع بالفصحى العدنانيّة التي لا علاقة لها على أيّ حال بفصحى الرئيس التونسي الفريدة من نوعها، كما يقول المثل العربي: “أحشَفاً وسوءَ كِيلة؟!”. لقد كانت تونس تعاني من سوء سياسات حركة النهضة وزعيمها، فصارت تعاني من اختصار البلاد وحياتها السياسية في شخص الرئيس الملهم!

في البلدان العربية المضطربة المسؤولون هم المسيطرون بعد ما سُمّي بـ”الربيع العربي” عام 2011، وتداعياته في بلدانٍ عربيةٍ أُخرى. هؤلاء استولوا وتسلّطوا وأفسدوا وارتكبوا أفظع أو فظاعات السابقين نفسها

تجربة السودان

بيد أنّ الإغراء العراقي لا ينبغي أن يحرمنا من استعراض نموذج ربّما كان أسوأ في الوضع الحالي من النموذج التونسي. بعد ثورة العام 2019 في السودان وانضمام الجيش إلى الشعب ضدّ البشير ونظامه، قلنا إنّ السودان متفرّد دائماً منذ أسقط حكم الجنرال عبود أواسط الستينيّات من القرن الماضي، وإلى حين أسقط الجنرال سوار الذهب حكم النميري وأعاد الديموقراطية أواسط الثمانينيّات. وقد صبر طويلاً جدّاً على حكم البشير والمتأسلمين، لكنّه ثار أخيراً بعد أن ارتكب نظام البشير والترابي كلّ الكبائر: تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، وعدّة حروب بداخل دولة الشمال، ومجاعة تكاد تنزل بكلّ أهل السودان. لقد تعزّينا بأنّ الجيش بقيت بناه سليمة ووطنية وتحسّ مع الناس وإن تأخرت(!). لكنّ شراكة المدنيين والعسكر طوال عامين، وعلى الرغم من الخطط التفصيلية، ظلّت مقلقة وحافلة بالدعاوى والادّعاءات من الطرفين أو الأطراف. وقد فوجئنا نحن العرب خارج السودان بانقلاب العسكر على حمدوك وحكومته ووضعهم في السجون أو الإقامات الجبريّة. وبعد وساطات من العرب والأجانب وتحت وطأة التهديد بقطع المساعدات، أعاد الجنرالات حمدوك، لكنّه ما لبث أن استقال بعد شهر، وهذه المرّة مختاراً، ولا ندري هل كان الدافع هذه المرّة “غشمرة” (ظلم) العسكر أم راديكاليّات المدنيين؟! وسرعان ما عادت الوساطات العربية والدولية لإجراء حوار بين أطراف الشراكة المتصدّعة، وما يزال الطرفان يتغنّجان (!). السودان بلاد شاسعة وغنيّة بمواهب شعبها وبثرواتها الأخرى. لكنّ “الأجانب” المتآمرين أنفسهم لا يستطيعون أن يعملوا بالسودان ما عمله عسكرها ومتأسلموها. ورغبة كلّ عربي الآن أن لا ينسى السودانيون المتعبون مساوئ حكم البشير، ويحنّوا إلى عهدٍ مضى مثلما أصاب الليبيين والعراقيين والسوريين من حنينٍ بدون جدوى ولا حقائق. الأمر الإيجابي الوحيد في الأزمة السودانية أنّ الموجودين في المشهد لا يجأرون بالشكوى على السيادة من جانب العرب والأجانب. بمعنى أنّهم لا يتّهمون آخرين بالتآمر بينما هم شديدو الطهوريّة والإخلاص والتفاني. نحن نملك بقيةً من تفاؤل بشأن السودان، لأنّ مسؤوليه ومعارضيه لا يتّهمون الخارج العربي والدولي بانتهاك السيادة المصونة والمقدسة، وإن كانوا بالطبع لا يتّهمون أنفسهم، وإلّا لما كانوا عسكراً ولا يساريّين!

ماذا عن العراق؟

في العراق شهد البرلمان معركةً ما انتهت ذيولها. وفي الأصل لا نعرف لماذا وافق أنصار إيران على اختيار مصطفى الكاظمي لرئاسة الحكومة عام 2018. ثمّ لماذا وافقوا على إجراء الانتخابات المبكرة. ثمّ لماذا لم يتوقّعوا أن يفوز في الانتخابات زميلهم مقتدى الصدر بدلاً من الشبّان المدنيين الذين قتلوا منهم هم المئات في تظاهراتهم، ثمّ ها هم يتظاهرون مثلهم الآن بزعم تزوير الانتخابات!

الذي يسأله المرء (وهو سؤال يبدو ساذجاً): لماذا لا يمكن للعراقي أو اللبناني أو الليبي أن يقدّم مصالح بلاده في الاستقرار، بدلاً من المصالح الإيرانية حتى ولو كانوا قد أعطوه السلاح؟ لقد تمتّع الميليشياويّون بحوالى العقدين من الزمان في السلطة وفسادها وعشوائيّاتها وجرائمها. وعندهم الآن فرصة لاستعادة الوعي والبلاد، بلاد الرافدين، الماجدة والحضارية منذ ستّة آلاف عام.

لقد خجلت من أجلهم ومن أجل نفسي عندما سمعت الحديث عن قدرة مقتدى الصدر على جمع المكوِّن السنّيّ والآخر الكردي إلى جانبه (!). لقد صرتُ أكره هذا المفرد منذ اخترعه العراقيون أيام الأميركيين حتى لا يُقال إنّهم طائفيون مثل اللبنانيين. بينما الفظائع التي ارتكبها هؤلاء بعضهم بحقّ بعض تصبح معها “أهوال” الحروب اللبنانية ألعاب أطفال! نعم، لماذا لا يستطيع “الإطار التنسيقي” الذي حكم بناءً على نتائج انتخابات العام 2018 (وقد خالطتها شوائب كثيرة بالفعل)، أن يسلِّم بحكم فريقٍ آخر شيعي أيضاً، أشرك معه المكوِّنين كما أشركوهم هم من قبل؟ العراق الذي كان ينبغي أن يكون، إلى جانب ليبيا والجزائر، أغنى البلاد العربية وأكثرها تقدّماً، يكاد لا يستطيع دفع مرتّبات موظفيه، ويستورد كلّ شيء من إيران المحاصَرة. والأفدح من ذلك أنّ إيران تنتقم منه بقطْع المياه والكهرباء والمشتقّات النفطية! وهذا من دون أن نذكر تركيا هي الأخرى.

لماذا لا يستطيع العراقيون الاتفاق على إدارة بلادهم قبل أن يصبح حكمها مستحيلاً؟

حتى إيران قيل إنّ قائد حرسها الثوري طلب من أتباعه بالعراق التهدئة مع الكاظمي. إنّ الصراع السياسي يظلّ ممكناً مع حكومة ومعارضة وأجنحة في البرلمان. أمّا الصراع بالتعطيل وبالصواريخ والمدفعيّة والمُسيَّرات فهو مضرٌّ بالجميع، ومضرّ بالدرجة الأولى بالمعسكر الإيراني.

إنّ المسؤولين المباشرين عن الخراب في تونس والسودان، كما في العراق، هم تونسيون وسودانيون وعراقيون. أمّا أن تقولوا لي: لكنّهم تابعون لإيران أو لفرنسا أو لأميركا، فإنّ ذلك ليس عذراً ولا يجعل منهم أُناساً محترمين ولا مواطنين صالحين. ثمّ إنه يجعلهم ويجعل أولادهم بدون مستقبل في وطنهم، فضلاً عن اتّهامات الفساد واستغلال النفوذ وقتل الناس وظلمهم. وكيف يستطيع هؤلاء أن يتحمّلوا المسؤولية عن حياة أربعين مليون مواطن، سيكون متعذّراً عليهم العيش في بلدٍ يفتقر إلى كلّ شيء بما في ذلك الإدارة الحكومية. لا أصدّق أنّ الإيرانيين يستطيعون أن يأمروا عراقيين بجعل تشكيل إدارة حكومية في بلادهم أمراً مستحيلاً!

ثنائي لبنان الشيعي

وما يُقال عن العراق يُقال عن لبنان وأكثر عن سورية. فما يُسمّى بـ”الثنائي الشيعي” يرتهن البرلمان والحكومات منذ عقدٍ ونصف في لبنان. وخلال هذه المدّة تعطّل البرلمان أو الحكومة أو رئاسة الجمهورية أو كلّها معاً لحوالى السبع سنوات. وقد استتر الثنائي أحياناً برئيس أو رئاسة الجمهورية بحجّة أنّه لا يصلح لها إلا الجنرال ميشال عون. لكنّ عون الذي صار رئيساً للجمهورية عام 2016 بقوّة الثنائي بدأ يتذمّر أيضاً عندما أدرك أنّهم يتحكّمون بكلّ شيء، بما في ذلك الآن منع الحكومة من الاجتماع لإرغام رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على نقل قاضٍ يحقّق في تفجير مرفأ بيروت قبل عامٍ ونصف. بيد أنّ مشكلة لبنان متعدّدة الأَوجُه ولا تقتصر على سيطرة الحزب بالسلاح ووهجه. فالمصارف مقفلةٌ على أموال المودعين، والعملة اللبنانية انهارت وصار الدولار الواحد ثلاثين ألف ليرة بعد أن كان قبل عامين ونصف ألفاً وخمسمئة ليرة. والأدوية والكهرباء والأغذية والمحروقات نادرة أو مرتفعة التكلفة جدّاً بحيث يعجز عن التصرّف بشأنها أكثر من 80% من اللبنانيين. وهذه المسائل كلّها لا يُسأل عنها بالطبع الحزب وحده الذي شارك بنصيبٍ وافرٍ في الفساد وفي تعطيل الإدارة أو إفسادها، ومن ذلك السيطرة على المرفأ والمطار والحدود مع سورية.

الطبقة السياسية اللبنانية عالية المسؤولية أيضاً في كلّ ما حصل. والحزب المسلَّح يتبرّأ، لكنّه يعطّل إمكانيّات التغيير بعد أن ثار اللبنانيون مثل العراقيين عام 2019. إنّما وعلى أيّ حال، وأيّاً يكن توزُّع المسؤوليّات عن الخراب اللبناني المستجدّ، فإنّ الطبقة السياسية تظلّ مستعصية على المحاسبة، والحزب بريء بريء، وهمُّه مهاجمة السعودية والحملة على العرب.

رأيت في التلفزيون قبل أيام رئيس بلدية حيّ “الغبيري”، أحد أحياء ضاحية بيروت، وهو يقول بحماسة إنّه سيسمّي كلّ شوارع الضاحية بأسماء الأبطال الإيرانيين أمثال قاسم سليماني والخامنئي، وأبو مهدي المهندس الذي قُتل مع سليماني. وهذا يعني أنّ هؤلاء مصرُّون، وسيصوّتون للخيارات ذاتها في الانتخابات، فيتفاقم الانقسام بين الطوائف، وهي في الحقيقة ليست طوائف بل تيارات سياسية معارضة للحزب وسلاحه. وفي النهاية: من يتحمّل المسوؤلية: الحزب المسلَّح أم أسياده البُعداء؟

نحن لا نملك أن نحاسب الإيرانيين، لكن من حقّنا وواجبنا محاسبة الحزب المسلّح، ومحاسبة الطبقة السياسية الفاسدة والمتآمرة على سلامة الوطن واستقراره.

“سوريا الأسد”

الملفّ السوري ملفٌّ شديد التعقيد. حاول الإيرانيون مساعدة الرئيس السوري منذ العام 2012 من طريق الحرس الثوري وحزب الله. وعندما ما كفى ذلك تدخَّل الروس، وتدخَّل الأتراك من الشمال. وبين هذا وذاك وذلك هناك فرقاء سياسيون وعسكريون، منهم الأكراد الذين يحميهم الأميركيون، ومنهم المتشدّدون بإدلب ونواحيها. فالبلاد مقسَّمة إلى عدّة أقسام. والمهجّرون يعدّون اثني عشر مليوناً، والنظام ما يزال يستعصي على الحلّ الدولي والقرار 2254، ويُراد لنا أن نصدّق أنّ إيران تتحكّم وحدها بالنظام في سورية. هناك خمسة فرقاء، إن لم يكن أكثر، من الذين يملكون جنوداً على الأرض السورية. لكن وفي البداية والنهاية، ألم يكن الرئيس الأسد قادراً على الحديث مع المعارضين ومع الأكراد بدلاً من استدعاء القوى الخارجية للدفاع عن نظامه في وجه شعبه؟

ليبيا والخراب

لا أحد أكثر مسؤولية من الليبيين عن خراب بلادهم. لقد انقسموا بين غربٍ وشرقٍ ووسط وجنوب. ثمّ انقسم البرلمان، وحكومة طرابلس لا تسيطر على الإدارات بالشرق والوسط والجنوب. وطرابلس ومصراته تغصّان بالميليشيات من كلّ شكلٍ ولون، والملتحون ممّن يسمّون بـالصحويّين” هذه هي حكومتهم الإسلامية. والشعب الليبي الذي رفض الخضوع للطليان وقدّم آلاف الشهداء، ينوء تحت أثقال المسلّحين اليوم بعد أن صدّع معمّر القذّافي صفوفه طوال أربعين عاماً. فقد تأجّلت الانتخابات لأنّ الإخوان والمسلّحين والتجّار يخافون أن لا يفوزوا فيها. وكنت أظنّ أنّ ليبيا لا يمكن أن تخرب لأنّ الأوروبيين حريصون على البترول، وأن لا يأتي من ناحيتها المهاجرون والإرهابيون، بيد أنّ كلّ شيء حدث على غير ما توقّعتُ وتوقّع غيري. وكلّ الخراب حدث بأيدي الليبيين ومسؤوليّتهم، ودعك من الكلام على الأتراك والروس والطليان.

إقرأ أيضاً: 2021: عرب الارتباك.. وعرب القرارات الصعبة

اليمن والاستبداد الإيراني

ولن نطيل الوقوف عند اليمن. فلو فرضنا أنّ الإيرانيين يضطرّون الحوثيين إلى الولاء لهم والسير في طاعتهم، بسبب الاتفاق العقدي، وتوريدات السلاح: أفلا يفكّرون أنّهم وبهذه الأعداد والقدرات لا يستطيعون حكم اليمن مهما بذلوا من جهود وغنموا من الأراضي؟ ثمّ كيف يصبر اليمنيون البالغون ثلاثين مليوناً على تحكّم الاستبداد والاستعباد والهبل الذي لا مردَّ له؟

وأخيراً في النهاية كما في البداية: في البلدان العربية المضطربة المسؤولون هم المسيطرون بعد ما سُمّي بـ”الربيع العربي” عام 2011، وتداعياته في بلدانٍ عربيةٍ أُخرى. هؤلاء استولوا وتسلّطوا وأفسدوا وارتكبوا أفظع أو فظاعات السابقين نفسها. وفي استمرار سيطرة هؤلاء، وسواء انتسبوا إلى إيران أو تركيا أو روسيا أو أميركا أم لم ينتسبوا، فالجرائم جرائمهم والمسؤوليّات مسوؤليّاتهم. ولا يجوز صرف ذلك إلى السيّد البعيد لأنّ في ذلك معذرةً لهم أو تخفيفاً لارتكاباتهم. وعلينا أن نصرَّ دائماً على محاسبتهم. فهم المرتكبون وحدهم في معظم الأحيان.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى