كتب ممدوح الولي في “الجزيرة نت”: عندما تمر الدول بضائقة اقتصادية فإنها تعيد النظر في تفاصيل إنتاجها، في محاولة لتقليل النفقات وتعظيم الإيرادات، خاصة عندما تعاني من فجوة دولارية ضخمة مثلما يحدث بمصر. لذا تعد قضية الفاقد الضخم في السلع والخدمات أحد المداخل التي يمكن من خلالها زيادة المعروض السلعي والخدمي من دون تكلفة.
تبلغ نسبة الفاقد إلى الكميات المتاحة للاستهلاك، حسب بيانات عام 2020 الصادرة عن جهاز الإحصاء، 25% من مجمل استهلاك الخضروات، و20% من الموالح، و16% من الفاكهة، و9% من الحبوب، و7% من كل من البقول والمحاصيل السكرية، و6% من المحاصيل الزيتية. بما تعنيه تلك النسب من كميات ضخمة وتكلفة عالية ضائعة، يترتب عليها قيام المنتجين بتحميل تكلفة ذلك الفاقد على أسعار باقي الكميات المُنتجة، مما يرفع أسعار السلع.
ورغم إنشاء 18 صومعة بالقطاعين العام والخاص لتخزين القمح، فإن كميات الفاقد من القمح بلغت مليونين و467 ألف طن، تمثل نسبة 11% من إجمالي كميات الاستهلاك البالغة 22 مليون طن، من كل من الإنتاج المحلي البالغ 9.1 ملايين طن، وصافي المخزون والواردات البالغة 12.9 مليون طن.
إذا كانت قيمة ذلك الفاقد قد بلغت 9.8 مليارات جنيه بأسعار واردات عام 2020، فإنها تصل حاليا، حسب أسعار الشهر الماضي للقمح الأميركي الصلد، 1.1 مليار دولار، مع بلوغ نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح 41%.
كذلك الذرة الشامية بنوعيها البيضاء والصفراء، والتي كان نقصها سببا في إعدام المربين بمزارع الدواجن الكتاكيت مؤخرا بسبب تأخر الإفراج عنها بالموانئ، حيث تصل نسبة الاكتفاء الذاتي منها 45%، ومع ذلك فقد بلغ الفاقد من الذرة الشامية مليونا و51 ألف طن، تمثل نسبة 6% من الاستهلاك، وتصل قيمتها بأسعار الشهر الماضي في حالة استيرادها 361 مليون دولار.
فاقد الطماطم يقترب من مليوني طن
الفول الجاف الذي يعد الغذاء الشعبي لعموم المصريين، والذي تصل نسبة الاكتفاء الذاتي منه 17%، بلغت كميات الفاقد منه 61 ألف طن، وفول الصويا الذي تصل نسبة الاكتفاء الذاتي منه أقل من 1%، ومع ذلك بلغت كميات الفاقد منه 269 ألف طن، تصل قيمتها بأسعار الشهر الماضي العالمية 168 مليون دولار.
يشير تعريف الفاقد إلى الكميات التي تم فقدها من السلع والمنتجات خلال عمليات الفرز والتعبئة والنقل والتخزين والتصنيع وغيرها من مراحل التسويق، وهو ما يتضح بصورة كبرى في مجال الخضروات بوصول نسب الفاقد إلى الاستهلاك 29% من الطماطم، بكمية فاقد بلغت مليونا و861 ألف طن من مجمل متاح للاستهلاك بلغ 6.4 ملايين طن، رغم التوسع في إنشاء الثلاجات لحفظ الخضر والفاكهة، والتي بلغت 3350 ثلاجة بالمحافظات في منتصف العام الماضي، تشتمل على 6826 غرفة، معظمها تعمل بالتبريد، وبعضها تعمل بالتجميد.
ورغم ذلك بلغت نسبة الفاقد 29% للفاصوليا الخضراء، و25% للفلفل، و23% للفول الأخضر، و21% للبطاطس، و20% للكرنب، و19% لكل من الملوخية والخيار، و18% لكل من الكوسة والباذنجان، و17% للبصل.
ولا توضح تلك النسب للفاقد الكميات الكبيرة المفقودة، التي بلغت 1.3 مليون طن من البطاطس، و457 ألف طن من البصل، و233 ألف طن من الباذنجان، و217 ألف طن من الفلفل، وهو ما يتكرر بأنواع الموالح ببلوغ كمية الفاقد 374 ألف طن من البرتقال، كان تصديرها يمكن أن يجلب 400 مليون دولار بأسعار الشهر الماضي العالمية، و105 آلاف طن للفاقد باليوسفي.
ورغم بلوغ مساحة غرف ثلاجات الحفظ بالمحافظات 122 مليون متر مكعب، فإن كمية الفاقد بلغت بأنواع الفاكهة 278 ألف طن من البلح، و255 ألف طن من العنب، و250 ألف طن من الموز تعادل قيمتها 238 مليون دولار بالأسعار العالمية، و210 آلاف طن مانجو، و186 ألف طن تفاح، و135 ألف طن زيتون.
تزايد فاقد بعض الفواكه رغم وجود الثلاجات
يظل السؤال هل ساهمت الصوامع وثلاجات الحفظ في تراجع كميات الفاقد خلال السنوات الأخيرة؟ تشير أرقام جهاز الإحصاء الخاصة بالسنوات الخمس الممتدة ما بين عامي 2016 و2020 لوجود تذبذب في كميات الفاقد من القمح والذرة والطماطم، مع الميل لانخفاض كميات الفاقد، في حين يتجه الفاقد للزيادة بالكمية في السنوات الأخيرة في الأرز والبطاطس والعنب والمانجو والموز والدواجن.
ويمتد انتشار صور الفاقد للعديد من المجالات نذكر منها، ما ذكرته النشرة السنوية للكهرباء للعام المالي 2019-2020 الصادرة عن جهاز الإحصاء، ببلوغ حجم الفاقد من الكهرباء 42 مليار كيلووات/ساعة تمثل نسبة 21% من إجمالي الطاقة المولدة البالغة 197.4 مليار كيلووات/ساعة، وتوزعت نسبة الفاقد ما بين 0.5% بشركات توليد الكهرباء، و4% بشركة نقل الكهرباء، و16.7% بشركات توزيع الكهرباء.
لكنْ هناك فاقد آخر لا تشير إليه الجهات الرسمية، وهو الفارق الكبير بين أقصى حمل للكهرباء بالسنوات الخمس الأخيرة، أي ذروة استهلاك الكهرباء اليومي البالغ 32 غيغاوات/ساعة، وبين القدرة الاسمية لمحطات التوليد في العام المالي 2020-2021 والبالغة 58.8 غيغاوات/ساعة، أي أن هناك 26.8 غيغاوات/ساعة طاقة فائضة لا يُستفاد منها نتيجة التوسع غير المدروس في إنتاج الكهرباء خلال السنوات الأخيرة، رغم أن وزير الكهرباء يملك مكتبا استشاريا للكهرباء، لكن القرار السياسي كانت له الغلبة.
تشير كمية الفائض إلى أنه لم تكن هناك حاجة لإقامة محطات الإنتاج الثلاث، التي أقامتها شركة سيمنس الألمانية بالأمر المباشر، وتبلغ طاقتها مجتمعة 14.4 غيغاوات/ساعة، لأن الفائض يزيد عن إنتاجها بنحو 12.4 غيغاوات/ساعة، مع وجود صعوبات في تصدير الكهرباء عدا كميات صغيرة لليبيا والأردن والسودان.
الأمر الذي أدى لتشغيل المحطات بنصف طاقتها أووقف تشغيل بعضها وتشغيل الآخر بالتناوب، بل إن هذا الفائض أثر على حجم مشتريات الحكومة من الكهرباء من مشروع الطاقة الشمسية المقام بمنطقة بنبان بمحافظة أسوان، وتحميل تكلفة الفاقد للمستهلكين في شكل زيادات متتالية للأسعار.
دمياط مجتمع بلا فاقد
وبمجال إنتاج مياه الشرب تشير بيانات نشرة إحصاءات مياه الشرب الصادرة عن جهاز الإحصاء للعام المالي 2020-2021 إلى بلوغ نسبة الفاقد في المياه 27.9% على مستوى الجمهورية، وزادت نسبة الفاقد في 11 محافظة عن 30%، وكانت أعلاها بمحافظات السويس والإسماعيلية وبورسعيد بنسبة 71%، وبمحافظتي شمال وجنوب سيناء 55%، والبحيرة 44%، وكانت أقل نسبة (18%) بمحافظة الدقهلية.
كذلك بلوغ نسبة الفاقد في ورق الطباعة خلال عملية الطباعة اليومية للصحف حوالي 13% حتى يتم ضبط درجة وضوح الطباعة والألوان، حيث يتم بيع تلك الكميات على هيئة دشت بقيمة زهيدة.
بيد أن الصورة لا تخلو من ملامح مضيئة، ففي محافظة دمياط التي تعمل بها آلاف الورش الحرفية لصناعة الأثاث، استطاعت تلك الورش بفضل ثقافة تدوير الفاقد السائدة بالمحافظة تاريخيا الاستفادة من أي قطع خشبية صغيرة تنجم عن التقطيع للأخشاب لتدخل في صناعة أخرى، ونشارة الخشب يتم استخدامها في عدة أمور منها استخدامها كوقود في الأفران البلدية.
وفي دمياط تم استخدام بواقي الطعام من البيوت كغذاء لتربية الدواجن على أسطح المنازل حتى عام 2016، حين ظهرت إنفلونزا الطيور وتم منع تربية الدواجن، إضافة إلى صور أخرى للتدوير، مما جعل البعض يطلق عليها محافظة بلا فاقد، كذلك ما تقوم مدينة فوه بمحافظة كفر الشيخ باستخدام قصاصات الأقمشة من محلات تفصيل الملابس، وإعادة استخدامها لصنع الكليم كأرضيات لحجرات المنازل بأشكال بديعة تجذب السياح والزوار للمدينة، وميت الحارون التابعة لمركز زفتى بمحافظة الغربية والتي تصنع من إطارات السيارات التالفة مصنوعات جلدية متنوعة، وحيث يقوم أحد رجال الأعمال بتجميع العبوات البلاستيكية للمياه المعدنية وتقطيعها إلى أجزاء صغيرة، ثم إعادة تصديرها للصين.
وهكذا تحتاج قضية الاستفادة من الفاقد اهتماما رسميا ومجتمعيا أكبر، خاصة من جانب الجمعيات الأهلية والعلمية، والاستفادة من خبرات المتقاعدين من الباحثين والمتخصصين، حيث إنها تحل أكثر من مشكلة، أولاها كبر حجم المخلفات الزراعية والصناعية ومخلفات المنازل، وتخفيف حدة نقص الأعلاف للماشية والتي تعد العامل الأول لاستمرار صعود أسعار اللحوم، باستخدام المخلفات الزراعية ومخلفات مصانع العصائر.
كذلك الاستفادة من العديد من الرسائل الجامعية التي بحثت قضية الفاقد على مختلف صوره وخاصة الفاقد الزراعي، والاستفادة من الاختراعات الموجودة بأكاديمية البحث العلمي الخاصة بتدوير المخلفات وتقليل نسب الفاقد. كما أن الفاقد يمكن أن تقوم عليه صناعات عديدة صغيرة ومتوسطة.