الاستثمار في التكرير رهان البلدان الأفريقية المصدرة للنفط
دأب عدد من الدول الأفريقية المنتجة للنفط في الفترة الأخيرة على تسريع وتيرة وإنجاز مشاريع التكرير، إذ أعطت الأولوية لإنجاز المصافي الجديدة أو استصلاح القديم منها. ولمواجهة صعوبات التزود، ترغب بلدان عدة في إنشاء مصافي التكرير لخفض فاتورة الدعم وتجنب النقص في السوق الاستهلاكية الداخلية.
إلى ذلك، أعلنت غينيا الاستوائية الدولة المنتجة للبترول منذ منتصف التسعينيات وبعد اكتشاف رواسب هيدروكربونية كبيرة (نفط وغاز مستخرج من النفط)، عن عزمها إنشاء مرافق للتكرير. ووقعت شركة النفط الحكومية في البلاد بالتعاون مع شركتي CRCC الصينية وCIRDL، اتفاق إطار لتمويل وبناء مصفاة بمعايير دولية، لإنشاء بنية تحتية ملائمة والتي سيتم تمويلها من قبل شركة Gepetrol الوطنية بنسبة 44 في المئة وشركائها الصينيين بنسبة 56 في المئة لمعالجة 20 ألف برميل من النفط الخام يومياً.
وتعتزم السلطات في غينيا الاستوائية الاستجابة لزيادة الطلب على المنتجات المكررة، إذ يتراوح الاستهلاك الداخلي بين خمسة آلاف و10 آلاف برميل يومياً، وتمثل غينيا مثالاً لتطلع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء إلى تحرير صناعة النفط والغاز من القيود المفروضة عليها.
وهناك توجه قوي لدى الدول الأفريقية المنتجة للنفط والغاز نحو تطوير قدراتها في مجالات استكشاف وإنتاج ومعالجة الموارد الهيدروكربونية في مشتقاتها النفطية، بهدف تغطية مستويات الطلب المحلي المتنامي، بدلاً من الاستعانة بالخبرات الأجنبية لأداء تلك المهام.
احتياطات ضخمة غير مطورة
وتزخر القارة الأفريقية باحتياطات ضخمة من النفط والغاز لكنها تظل غير مطورة بحكم أن البعض منها لم يتجاوز مرحلة الاكتشاف إلى الاستغلال والتسويق، وهو ما حرم البلدان من عائدات هامة تساعدها على الارتقاء في سلم النمو.
ويمثل احتياط النفط الخام في أفريقيا 6.8 في المئة من الاحتياط العالمي بعد أن شهد انخفاضاً طفيفاً ليبلغ 119.050 مليار برميل عام 2023 مقابل 119.099 مليار برميل عام 2022 في الوقت الذي سجل الإنتاج ارتفاعاً ليصل إلى 7.146 مليون برميل يومياً عام 2023، مقابل 7.131 مليون برميل عام 2022، بينما كانت احتياطات النفط بلغت 125.1 مليار برميل في 2020 وفق بيانات شركة النفط البريطانية “بي بي”.
وتراجع الاحتياط جاء تحت مفعول نقص احتياطات النفط في نيجيريا ثاني أكثر الدول الأفريقية من حيث الاحتياطات بعد ليبيا إلى 36.96 مليار برميل خلال 2023، مقابل 37.05 مليار برميل عام 2022.
وبلغ إنتاج النفط الخام في نيجيريا 1.2 مليون برميل يومياً في 2022، و1.2 مليون برميل في 2023، وفقاً لبيانات “أوبك” وينتظر تطور الإنتاج ليبلغ 1.8 مليون برميل في اليوم من النفط الخام.
يشار إلى أن نيجيريا عانت في السنوات الأخيرة من تخريب خطوط الأنابيب وسرقة النفط، لذا فإن المعضلة الحقيقة لديها تظل هي عدم قدرة المصافي المتوافرة لديها على تحقيق الإنتاج الكافي، إذ تستورد نيجيريا وهي أكبر منتج للنفط في القارة جميع حاجاتها تقريباً من المنتجات النفطية، وتفتقد المصافي النيجيرية أعمال الصيانة الدورية، وهذا ما أكده وزير النفط النيجيري هاينكن لوكبوبيري بعدما قال إن “مصافي النفط الحكومية الأربعة المغلقة ستدخل الخدمة بحلول نهاية عام 2024”.
يذكر أن نيجيريا افتتحت الاستثمار الأضخم على الإطلاق في هذا المجال مع انطلاق هذه السنة وهو مصفاة “دانغوت” وبدأت المصفاة الأكبر في أفريقيا التي تبلغ طاقتها الإنتاجية الإجمالية 650 ألف برميل يومياً نشاطها، وتستهدف معدل تكرير يبلغ 350 ألف برميل يومياً قبل الوصول إلى طاقتها الكاملة.
ولا تتوقف معضلة نقص المعدات وقصور المصافي على نيجيريا فحسب، بل تمتد إلى بلدان أفريقية مصدرة للنفط، وهو ما حرم صادراتها من القيمة المضافة.
وأوضح لوكبوبيري أن “أفريقيا تسعى إلى التحول من مجرد مزود للمواد الخام، إلى تطوير سعتها وقدرتها على استكشاف وإنتاج ومعالجة الموارد الهيدروكربونية”.
تصدير 70 في المئة من النفط المنتج
من جهته، اعتبر الأمين العام للمنظمة الأفريقية لمنتجي النفط عمر فاروق إبراهيم، أنه “من المؤسف أن تواصل أفريقيا الاعتماد على تقنيات النفط والغاز الأجنبية على رغم إنتاجها للنفط منذ قرابة القرن وتحقيقها عائدات ضخمة”، قائلاً “70 في المئة من النفط الذي تنتجه البلدان الأفريقية يصدر وكذلك الغاز”، مشيراً إلى أنه على رغم وفرة الموارد النفطية فإن البلدان الأفريقية المصدرة لا تنعم بعائداتها الكاملة بل يعيش 600 مليون أفريقي من دون كهرباء.
ويرى المتخصصون أن الاستثمار في الإنتاج هو الحل الأمثل لتنمية موارد النفط، ولدفعه يجب خفض تكاليفه لجذب المستثمرين، إذ إن نسبة الاستثمارات الموجهة لإنتاج النفط والغاز في أفريقيا لا تزيد على ستة في المئة من الاستثمار العالمي على مدى السنوات الـ10 المقبلة، لكنها تتجه نحو الارتفاع بحكم الاكتشافات الجديدة وهو ما ينبئ بارتفاع الإنفاق.
ويرجح أن تتطور الاستثمارات في أوغندا وجنوب أفريقيا والسنغال وساحل العاج وموزمبيق وناميبيا، بعدما اقتصرت في فترة ما على نيجيريا وأنغولا والكونغو.
وتفتقر البلدان الأفريقية إلى الأموال اللازمة لتطوير قطاع الطاقة ولا تعتمد على الاستثمارات الداخلية، وتشكو من نقص التمويل وعدم توافر التقنيات الحديثة للإنتاج والعجز عن التسويق، إذ تغيب التقنيات الحديثة ويقع الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة.
في المقابل، شهدت نيجيريا تطورات مهمة في الفترة الأخيرة من شأنها زيادة الإنتاج للضغط على واردات الوقود، وأعلنت شركة “شل” في نيجيريا استئناف توريد النفط الخام إلى مصفاة النفط النيجيرية بورت هاركورت، بعد خمس سنوات من الإغلاق، وطرحت شركة النفط الحكومية النيجيرية “أن أن بي سي” مناقصة لشراء النفط لمصلحة مصفاة بورت هاركورت التابعة لها، وهي واحدة من أربع مصاف مملوكة للدولة أغلقت لسنوات، ويتم السعي لاستعادة نشاطها في محاولة، للتقليل من الاعتماد على توريد المنتجات النفطية.
وانطلق نشاط مصفاة دانغوت النيجيرية الأكبر أفريقياً مطلع العام الحالي والتي شكل استيرادها النفط الخام من الولايات المتحدة تساؤلاً، نتيجة توافر الإنتاج المحلي وحلول نيجيريا في المرتبة الأولى أفريقياً من حيث إنتاج الخام.
وباعت مجموعة “ترافيجورا” مليوني برميل من خام “نايمكس” إلى مصفاة “دانغوت” تسلمتها نهاية فبراير (شباط) 2024، وهي المرة الأولى التي تشتري فيها خاماً غير نيجيري، إذ إن طاقتها الإنتاجية تبلغ 650 ألف برميل يومياً وتستقبل الخام المحلي بموجب اتفاق توريد مع شركة النفط الحكومية، لكن إضافة إلى معالجة الخام المحلي، فإن المنشأة مجهزة لتكرير الخامات من بلدان أخرى.
من جانبه، رأى المتخصص في الشأن الاقتصادي محمد الناير في تحليله إلى “اندبندنت عربية” أن “كلفة المصفاة دانغوت مرتفعة للغاية، إذ وصلت إلى نحو 20 مليار دولار بسبب التأخير في التنفيذ وهي مصفاة تحتاج إليها نيجيريا لتغطية حاجات السوق المحلية، بعد أن بلغت واردات النفط ما لا يقل عن 20 مليار دولار سنوياً”.
وأضاف أنه من المنتظر أن تكرر نيجيريا حاجات السوق المحلية باعتماد مصفاتها للضغط على الواردات من جهة ثم تحقيق القيمة المضافة لصادراتها، في المقابل وإن بدا استيراد النفط الأميركي مستغرباً بسبب ضخامة حجم الإنتاج المحلي”، مفسراً ذلك برغبة نيجيريا في إدارة مصفاة دانغوت بعقلية تجارية بالنظر إلى انخفاض سعر الخام الأميركي مقارنة بالخام المتاح في الأسواق، إذ تستهدف تكريره وتحويله إلى مشتقات نفطية لاستغلالها من جهة ومن ثم الدفع لرفع طاقة المصفاة للعمل بطاقتها القصوى، إذ إن المصفاة الضخمة تعمل بطاقة 350 ألف برميل يومياً في حين تصل طاقتها القصوى إلى 650 ألف برميل.
وتابع الناير أن نيجيريا تعمل على زيادة طاقة الإنتاج للتحكم في الكلفة، ولا تقتصر أهداف الاستثمار النيجيري في التكرير على تغطية الاستهلاك المحلي بل يتجاوزه إلى إمداد دول الجوار الأفريقي التي لا تملك مصافي بمشتقات نفطية، وهي رؤية مستقبلية استثمارية تهدف لتحقيق الربح وتفادي الخسارة.
وقال الناير إن اعتماد البلدان الأفريقية المصدرة للنفط مثل نيجيريا وليبيا والجزائر والسودان على تصدير الخام يعود إلى انخفاض كلفته عكس النفط الصخري الأميركي المعروف بارتفاع كلفته، ما مكنها من جني أرباح طائلة بتصديره خاما. كما يتطلب إنشاء المصافي تمويلات مرتفعة ما دفع هذه البلدان إلى تصدير الخام وتوريد المشتقات النفطية، لكن هذا يفقدها القيمة المضافة ويحرمها من عائدات مهمة ويضع هذه البلدان في وضعية المرتهن إلى الخارج وتحت طائلة اضطرابات سلاسل الإمداد. وتأتي المستجدات بالبحر الأحمر والحرب الأوكرانية مثالاً على ذلك، فالاستثمار في مصاف وطنية بات ضرورة قصوى لدى المصدرين الأفارقة.