الاتفاق النووي والرئاسة اللبنانية
كتب العميد الركن خالد حمادة في “اللواء”:
تبدو الإندفاعتان الأميركية والإيرانية حيال المفاوضات النووية والتنازلات المتسارعة والمتبادلة بين الفريقين أقرب الى رسائل العتاب وإشارات اللوم والإعتذار بين شريكين حريصين على إنقاذ عهود من التعاون بينهما، منها الى مفاوضات بين دولتين تبادلتا عبر عقود كلّ أصناف الإتهام بالإرهاب ورعاية الجماعات المتطرّفة وتقويض الإستقرار الدولي. المشروع الأوروبي الذي تقدّم به «جوزيب بوريل» لإنقاذ الإتّفاق النووي والذي صيغت شروطه بما يتعذّر على المفاوض الإيراني رفضها أو تقديمها بصياغة أفضل، كان التوليفة المطلوبة من طرف ثالث لإخراج الشريكين من دائرة الإحراج. ناهيك بدور الوسيط الرخيص الذي تضطلع به فرنسا بتوسّل مصالح مالية هي أقرب الى سمسرات رخيصة، منها الى وساطة تقوم بها دولة كبرى لها تاريخها في المنطقة.
الهدف الأميركي من تسريع العودة الى الإتّفاق هو الحاجة الملّحة للغاز والنفط الإيراني للحفاظ على تماسك الموقف الأوروبي من الحرب في أوكرانيا وتصعيد المواجهة مع روسيا. والدافع الإيراني للتجاوب هو الخروج من دائرة العقوبات وإنعاش الإقتصاد وإنقاذ النظام المتهالك في طهران. لذلك بدا أنّ نسبة التخصيب المرتفعة التي بلغها المشروع النووي الإيراني لم تعدْ مصدر قلق بالنسبة للولايات المتّحدة، حتى أنّ المسؤولين في واشنطن بدأوا يسوّقون لفكرة الإستيعاب الأميركي للواقع الجديد على أنّه أفضل الممكن في ظلّ عدم القدرة على السيطرة على عملية التخصيب التي قد تبلغ 90%. هذا بالإضافة أنّ التهديدات الإسرائيلية المعلنة باستهداف المنشآت النووية الإيرانية في حال التوقيع على الإتّفاق لم تعدْ تلقى آذاناً صاغية في واشنطن.
على المستوى العربي تلاقي دول الخليج الدخان المتصاعد من جنيف أو ربما هي تماهت بحذر وترقّب مع المسار الدولي. فقد أعلنت وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية، يوم الأحد المنصرم، عودة سيف محمد الزعابي، سفير دولة الإمارات إلى العاصمة الإيرانية طهران، خلال الأيام القادمة. بدوره صرّح المتحدث بإسم لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني «أبو الفضل عمويي» بأنّ الحوار مع المملكة العربية السعودية قد وصل إلى مرحلة إعادة العلاقات الدبلوماسية، كما أعلن وزير الخارجية الإيراني – في حوار مع التلفزيون الإيراني- أنّ الوسيط العراقي أبلغ طهران استعداد الرياض لإطلاق محادثات علنيّة على المستوى السياسي.
الجديّة الأميركية وربما القلق الأميركي من تهديد أمن الطاقة العالمي وتداعي الموقع الدولي للولايات المتّحدة كان وراء الخطة التي أعلن عنها أول من أمس الأدميرال «تشارلز برادفورد كوبر» قائد الأسطول الأميركي الخامس بنشر 100 منصة رصد غير مأهولة في المناطق والممرات المائية الحيوية، وذلك من أجل ضمان الأمن البحري الإقليمي، مؤكّداً أهمية حماية هذه المنطقة التي وصفها بـ»وقود العالم».
«كوبر» الذي حدّد مهمة الأسطول بتأمين إمدادات النفط من الخليج إلى الأسواق العالمية، وضمان حرية التدفق الحرّ للتجارة في جميع أنحاء المنطقة، وحماية الممرات الاستراتيجية الثلاثة والإشراف على العمليات في الخليج العربي وخليج عمان والبحر الأحمر وأجزاء من المحيط الهندي، بدا وكأنّه يُطمئن دول المنطقة ويدعوها لإرساء علاقات جديدة تراعي الدروس المستخلصة من المراحل السابقة. قائد الأسطول الخامس الأميركي كان هادفاً عندما أعرب عن توقعاته بـ«انضمام المزيد من الدول في المستقبل إلى التحالفات الدولية في المنطقة، وتشكيل بنيّة أمنية بحرية دولية أقوى في هذا الجزء البالغ الأهمية من العالم الممتد بطول 8000 كلم من السويس وحول شبه الجزيرة العربية .
يتضمّن الجدول الزمني للإتّفاق وفق التسريبات الإعلامية مرحلتين تستغرق كلّ منهما 60 يوماً تقوم خلالها طهران بكافة الترتيبات والإجراءات المطلوبة لإعلان التزامها بالإتّفاق، على أن يبدأ تصدير النفط الإيراني بعد 120 يوماً من التوقيع، بالتزامن مع إلغاء كلّ المذكرات التنفيذية التي اتّخذنها الإدارة الأميركية ضد طهران. هذا يعني أنّ الإتّفاق لن يصبح ناجزاً قبل نهاية العام الحالي، كما أنّ المرحلة الزمنية الأولى منه التي تتضمّن تحرير بعض رؤوس الأموال الإيرانية لن تبدأ قبل الإنتهاء من الإنتخابات الأميركية النصفيّة في 8 تشرين الثاني / نوفمبر القادم التي ستحدّد الأكثرية في كلّ من مجلسيّ الشيوخ والكونغرس، وبالتالي تؤكّد قدرة الرئيس بايدن على السيْر بأجندته. وبالتزامن مع هذه المرحلة ستُجرى الإنتخابات الإسرائيلية في الأول من نوفمبر وهي ستشكّل بدورها اختباراً للقدرة الأميركية على إنتاج أكثرية في الكنيست تتلاءم مع توجّهات الإدارة الديمقراطية في واشنطن في حال فوزها بالإنتخابات وبالتالي إنضواء القيادة الإسرائيلية بسلاسة تحت العباءة الأميركية.
في ضوء كلّ ذلك تبدو الإستحقاقات المنتظرة بدءاً من شهر أيلول / سبتمبر المقبل محكومة بالتأجيل وربما بالسقوط، وعليه فإنّ الأهمية المعلّقة على المهلة المفترضة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ببعديها الغازي والأمني محكومة بالتراجع أيضاً. بهذا المعنى فانّ أهمية تطوير حقل كاريش ستعلّق بدورها ليس بسبب مخزونه المحدود الذي لا يمكن مقارنته بالإحتياطات الإيرانية من الغاز القابلة للتصدير في حال التوقيع، بل على خلفيّة إلغاء الأجندة الصاروخية التي سبق وأعلنها أمين عام حزب الله والتي يبدو أنّ المكاسب الإيرانية المرتقبة من فيينا قد أسقطتها، أو على الإقل تمّ ترحيلها ريثما تتبيّن نتائج الإنتخابات في واشنطن وبعدها في إسرائيل. وبهذا المعنى أيضاً فإنّ الإستحقاق الرئاسي الذي يعتبره حزب الله ورقة ضغط إيرانية بامتياز سيدخل دائرة الملاءمة مع خارطة الطريق المعلنة في فيينا وتداعيات توازن القوى الجديد.
فهل يشكّل الوقت المستقطع حافزاً لإخراج الإستحقاق الرئاسي من حيّز المناكفات المارونية الضيّقة الى الحيّز الوطني، وهل يدفع ذلك النواب السياديين والمستقلين للتوقف عن الدوران اللامتناهي حول الذات ؟ أم يترك المجال لطهران لاعتبار الدخول في مسار توقيع الإتّفاق بمثابة غطاء أميركي كافٍ لتكرار تجربة انتخاب ميشال عون جديد بقوة السلاح، أو المضي بتعطيل إنتاج السلطة وتكرار المشهد العراقي في حال التعذّر؟