كتب محمد خليفة في صحيفة الخليج.
درجت دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ ميلادها، على اتباع سياسة الانفتاح على مختلف دول العالم، والالتزام بمبادئ التعايش السلمي والاحترام المتبادل، وتكريس علاقات التعاون، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واللجوء إلى الوسائل السلمية، لتسوية النزاعات الدولية.
وخلال السنوات الماضية، حققت دبلوماسية دولة الإمارات انفتاحاً واسعاً على العالم الخارجي أثمر عن إقامة شراكات على مختلف الصعد، استراتيجية وسياسية واقتصادية وتجارية وثقافية وعلمية مع العديد من الدول في مختلف قارات العالم، بما عزز المكانة المرموقة التي تتبوأها دولة الإمارات في المجتمع الدولي.
تبنت الدبلوماسية الإماراتية سياسة الحياد الإيجابي، والتي تقوم على تبني مواقف غير منحازة لأي طرف في أي خلاف أو نزاع بين دولتين صديقتين، من أجل الحفاظ على علاقات الدولة مع كل من الدولتين المتنازعتين، وأيضاً العمل على تشجيع جميع الأطراف لكي تتبنى خيار الدبلوماسية والتفاوض لتسوية الأزمات سياسياً، وإضافة إلى ذلك بذل الجهود الممكنة للتخفيف من التداعيات الإنسانية للأزمة، واحتواء آثارها الاقتصادية والاجتماعية قدر الإمكان.
وأكسبت هذه السياسة دولة الإمارات الاحترام والتقدير على نطاق واسع في العالم، وأصبحت قادرة على ممارسة أدوار كبيرة، وهذا ما تجلى في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي تعتبر من أعقد وأخطر الأزمات الدولية الراهنة، بسبب الانقسام الواضح في مواقف الدول حولها، خاصة بين من يؤيد روسيا ويتبنى رسالتها السياسية، وبين من يقف مع أوكرانيا وحلفائها في الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وغالبية الدول الأوروبية، ولأن دولة الإمارات ترتبط بعلاقات وثيقة مع كلتا الدولتين، فقد كانت وساطتها محل ترحيب من قبل الدولتين.
فيما يخص العلاقة مع روسيا، فإن التفاعل السياسي الروسي الإماراتي، يعدّ أحد العناصر المهمة للحفاظ على السلام والأمن على الساحة الدولية، وفي المنطقة، فيما تنظر روسيا إلى دولة الإمارات باعتبارها شريكاً ودوداً وموثوقاً على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وتلتزم الدولتان بنظام عالمي قائم على المبادئ المتعددة الأطراف.
أما في ما يتعلق بأوكرانيا فإن العلاقات بين الدولتين قد وصلت إلى مستوى الشراكة بينهما، حيث تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة أحد أكبر الشركاء التجاريين لأوكرانيا في الشرق الأوسط من ناحية حجم التجارة بالبضائع والمنتجات، وقد حرصت القيادة الرشيدة على استمرار موقف الدولة الثابت إزاء التمسك بالمبادئ الأساسية للأمم المتحدة والقانون الدولي، وتقديم لغة الحوار في حل الأزمات، ولذلك امتنعت عن التصويت لمصلحة أي قرارات مسيّسة ضد روسيا في مجلس الأمن، ومجلس حقوق الإنسان، وتحفظت على دعوات الرئيس الأمريكي جو بايدن لإجراء محادثات حول أوكرانيا، وإمكانية زيادة إنتاج النفط، لما سيكون لذلك من تداعيات سلبية في الاقتصاد والسياسة، وعلى مسار النزاع.
ومن المهم الإشارة إلى الزيارة التاريخية التي قام بها صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، إلى روسيا في 11 أكتوبر 2022، ومباحثات سموّه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تمثل رؤية إماراتية راسخة بأهمية إحلال السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، والتوصل إلى تسويات سياسية من خلال المشاورات والحوار، إلى جانب توظيف علاقات الصداقة والاحترام التي تجمع الإمارات مع دول العالم في تحقيق السلم والأمن الدوليين، في حلحلة الأزمة بين روسيا وأوكرانيا.
كما أنه من المهم الإشارة إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة تقف على مسافة واحدة إزاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا، ما جعلها وسيطاً نزيهاً، موثوقاً به من قبل الدولتين في دعم المسار الدبلوماسي، لإيجاد الحلول وتقريب وجهات النظر إلى أضيق مدى، وهذا ما هيأ لها المجال لإنجاز عمليات تبادل الأسرى بين الدولتين خلال السنتين الماضيتين.
وفي هذا الإطار أعلنت دولة الإمارات في 25 أغسطس/ آب الماضي عن نجاح جهود وساطة قامت بها بين جمهوريتي روسيا الاتحادية وأوكرانيا في إنجاز عملية تبادل أسرى حرب جديدة شملت 230 أسيراً مناصفة بين الجانبين، ليصل العدد الإجمالي للأسرى الذين تمّ تبادلهم بين البلدين في هذه الوساطات إلى 1788.
وهذه هي المرة السابعة، التي تنجح فيها دولة الإمارات في إتمام تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا، حيث نجحت جهود الوساطة الإماراتية، منذ بداية العام الحالي، في إتمام ست عمليات تبادل أسرى حرب بين روسيا وأوكرانيا، كما نجحت في ديسمبر 2022 في تبادل مسجونَيْن اثنين بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وهذا النجاح يعكس كفاءة الدبلوماسية الإماراتية، وحضورها المقدّر في النزاعات الدولية، من أجل إنهاء الأزمات، وإشاعة الأمن والسلام والتعايش بين الأمم والشعوب.
جهود دولة الإمارات في إبرام صفقات لتبادل الأسرى لا تتوقف، بل تتجاوزها إلى المساهمة في الجهود المتعددة لإنهاء الحرب، والتخفيف من آثارها على البلدين المتحاربين وعلى أوروبا والعالم بأسره.
ومن دون شك فإن نجاح دولة الإمارات في تحقيق تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا، إنما يدل على أنها نجحت في الحفاظ على ثقتها ومصداقيتها لدى كل من الدولتين المتنازعتين، وهذا ليس بالأمر السهل، خصوصاً أن الحرب تزداد عنفاً وخطورة وتكاد تتحول إلى نزاع دولي شامل وسط إصرار كل طرف على كسب الحرب.
ومن دون شك فإن الدبلوماسية الإماراتية التي أنجزت كل صفقات تبادل الأسرى تلك، إنما تسعى بطرق غير معلنة، لإنجاز تسوية تضع حداً للحرب الروسية الأوكرانية، هذه الحرب التي تركت آثاراً سلبية حادة على الاقتصاد العالمي وأدت إلى تباطئه، والدخول في دوامة الركود التي تلقي بظلالها على مختلف دول العالم.