كتب صلاح الغول في صحيفة “الخليج”: نظم مركز الإمارات للسياسات «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي التاسع» يومي 14و15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بعنوان «النظام العالمي: تشكيل اللعبة الكبرى الجديدة»، وحضرته نخبة من الدارسين والممارسين الدوليين، والخبراء وصناع القرار من داخل الإمارات وخارجها.
والحق أن مركز الإمارات للسياسات على الرغم من حداثة نشأته، قد تحول إلى مركز فكر مرموق في الداخل والخارج، يدل على ذلك كثافة أنشطته البحثية والثقافية والإعلامية، وكذلك تراكم إصدارته التي تغطّي قضايا عديدة ومتنوعة. كما تحول ملتقاه السنوي إلى مطبخ للأفكار والرؤى والسياسات المتعلقة بالتغيرات الدولية والإقليمية؛ بل والإماراتية أيضاً.
وقد ناقشت جلسات تأثير المتغيرات الإيرانية، سواء النابعة من داخل إيران (الاحتجاجات الشعبية المتواصلة)، أو من سياستها الإقليمية التدخلية في محيطها الجغرافي أو من برنامجها النووي. ويُحسب لمركز الإمارات للسياسات، حرصه على دعوة خبراء إيرانيين إلى الملتقى لعرض وجهة النظر الإيرانية، والتفاعل مع وجهات النظر الأخرى.
وتستند سياسة الإمارات تجاه إيران، إلى مبادئ سياستها الخارجية التي (ولحسن الطالع) أوضحها بجلاء، المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة، د. أنو قرقاش في افتتاح الملتقى، وتتلخّص في صيانة الأمن الوطني، وخدمة الاقتصاد، وتنويع الشركاء، واقتراب متعدّد الأطراف، وقيم الاعتدال والتسامح والانفتاح، واستتباب الأمن والاستقرار الإقليمي، ومكافحة العنف والتطرف، ومتابعة دور فعال في المنظمات الدولية.
وعلى هذا الأساس جاءت زيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد، مستشار الأمن الوطني، إلى طهران في ديسمبر/كانون الأول 2021، والتي وصفت بأنها نقطة تحول في العلاقات الإماراتية الإيرانية، وجاءت في إطار حملة دبلوماسية إماراتية تجاه دول المنطقة، وتزامنت مع مفاوضات بين السعودية وإيران في بغداد لتطبيع العلاقات بينهما.
ومن ثَم كان الأمل معقوداً على هذه الزيارة في بدء صفحة جديدة في المنطقة، لتحقيق الاستقرار الإقليمي والتنمية المستدامة والاعتماد الاقتصادي المتبادل.
ولكن جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ تلك الزيارة. ووصلت مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني إلى طريق مسدود، وذلك بعد تسع جولات من المفاوضات التي بدأت في أبريل/نيسان 2021، إضافة إلى جولة من المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، عبر الوسيط الأوروبي في الدوحة في يونيو/حزيران الفائت.
وكانت لدولة الإمارات، ودول مجلس التعاون الخليجي، تحفظات منذ البداية على هذه المفاوضات من ناحية مضمونها (عدم اهتمامها بوضع حدود على برنامج إيران المتطور للصواريخ الباليستية، فضلاً عن عدم بحثها تدخلاتها المثيرة للاضطراب في المنطقة)، وأطرافها (عدم دعوة دول المجلس للمشاركة فيها، وهي الأكثر تأثراً بما يدور فيها وبنتائجها المحتملة).
ثم اندلعت احتجاجات سبتمبر/أيلول 2022 في إيران، التي أخذت في التمدّد من حيث نطاقها الجغرافي في أقاليم البلاد الرئيسية، وعدد المشاركين فيها. وثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل هنا، فعلى الرغم من تنوع الهيكل النوعي للمحتجين (نساء ورجالاً) وخلفياتهم المهنية والثقافية، فإن المحرك الرئيسي للاحتجاجات هو جيل ما بعد الثورة الإيرانية (25 عاماً وأقل). ولكن بدت إيران مضطربة وغاضبة جرّاء هذه الاحتجاجات الشعبية الواسعة، ووزعت اتهاماتها بدعم أو تحريض المتظاهرين يميناً ويساراً، وأعقبتها بوعيد بالانتقام أو الثأر. وطالت هذه الاتهامات وهذا الوعيد دول مجلس التعاون الخليجي، على الرغم من الاعتراف الإيراني المتأخر بوجاهة بعض مطالب حركة الاحتجاج؛ بل دعوة المحتجين إلى مائدة الحوار. والواقع أن الاتهامات الإيرانية لدول المجلس لا أساس لها من الصحة، في ضوء سعي دولة الإمارات إلى تصفير المشكلات مع دول محيطها الإقليمي، وفي مقدمتهم إيران، واستتباب الأمن في المنطقة؛ لأنه يصب في المصلحة الوطنية الإماراتية والمصالح الجمعية لدول المنطقة في تحقيق التنمية المستدامة.
والأهم من ذلك أن أي تغييرات راديكالية في إيران، كتلك التي تدفع إليها حركة الاحتجاج، ستكون لها مضامين سلبية على المصالح الإماراتية في المنطقة، وتقود إلى زيادة الاضطراب في منطقة هي من أكثر المناطق اضطراباً في العالم.
وختاماً، يمكن لإيران بعد معالجة اضطراباتها الداخلية وإسكات غضبها على جيرانها، أن تقوم بدور إيجابي في بناء تصور جديد للأمن الإقليمي، تتبنّاه دولة الإمارات، وحملته إلى طهران ويداها ممدودتان، أثناء زيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد المشار إليها سابقاً، إلا أن المؤشرات تقول إن طهران ليست لديها الرغبة والاستعداد للقيام بهذا الدور، وإن كان ميل إيران للشرق (روسيا والصين) هو في صالح دول الخليج، حيث يمكن للأخيرة الحديث مع دول الشرق حول نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار. وبالتالي يمكن لهذه الدول تحييد النشاطات الإيرانية نتيجة لوجود مصالح كبيرة لدول الشرق مع دول الخليج