رأي

الإمارات وإسبانيا.. تعاون ذكي ومستدام

كتب د. خالد راشد الزيودي في صحيفة الخليج.

في عالم متسارع التغير، لم تعد قوة الدول تُقاس فقط بقدرتها العسكرية أو مكانتها السياسية التقليدية، بل أصبحت ترتكز أكثر فأكثر على قدرتها في صناعة الفرص الاقتصادية وبناء شراكات ذكية ومستدامة تستهدف المستقبل. فالعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين لم تعد علاقات دبلوماسية تقليدية تُدار من خلال السفراء والمراسم فحسب؛ بل باتت شراكات استراتيجية عميقة، مبنية على المصالح الاقتصادية والابتكار التكنولوجي.
وانطلاقاً من هذا الفهم الجديد، جاء الاجتماع الأخير للجنة الاقتصادية المشتركة بين الإمارات وإسبانيا في العاصمة مدريد، والذي عقد برئاسة وزيري الاقتصاد في البلدين، ليجسد لحظة مهمة في مسار العلاقات بينهما. فالتعاون الاقتصادي بين الإمارات وإسبانيا اليوم لم يعد مجرد ترف أو خيار جانبي، بل أصبح ضرورة استراتيجية تفرضها المتغيرات والتحديات العالمية المتسارعة.
إن العالم اليوم يواجه أزمات متعددة، من آثار تغير المناخ إلى الاضطرابات التي تشهدها سلاسل الإمداد والتوريد، ما يجعل الشراكات الدولية الذكية أمراً بالغ الأهمية. وتمثل الشراكة الإماراتية الإسبانية تحديداً نموذجاً مميزاً، لأنها ترتكز على رؤية مشتركة واضحة، ونهج عملي ومتوازن لمواجهة التحديات المستقبلية. وقد ترجمت الاجتماعات الأخيرة هذه الرؤية إلى واقع ملموس من خلال برنامج تعاون متكامل يشمل قطاعات الاقتصاد الجديد والطاقة المتجددة والتكنولوجيا والبنية التحتية وريادة الأعمال.
الاتفاقيات التي تم التوصل إليها بين البلدين لم تكن مجرد تفاهمات عابرة تهدف لرفع أرقام التبادل التجاري فقط، وإنما تعكس فلسفة جديدة للتعاون، تعتمد على مبادئ الاقتصاد الحديث والتنمية المستدامة. فالإمارات وإسبانيا تدركان جيداً أن الاقتصاد في المستقبل لن يقوم على الموارد التقليدية فحسب، بل سيعتمد على الابتكار والتطوير المستمر والقدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية.
إن العلاقات الاقتصادية بين الإمارات وإسبانيا، والتي سجلت نمواً ملحوظاً، حيث بلغ حجم التبادل التجاري أكثر من 3.3 مليار دولار عام 2024، وارتفعت الاستثمارات الإماراتية في إسبانيا إلى نحو 7 مليارات دولار، والاستثمارات الإسبانية في الإمارات إلى أكثر من 408 ملايين دولار، تؤكد عمق الثقة بين الجانبين. هذه الثقة تفتح الطريق أمام المزيد من التعاون في أسواق أخرى، تحديداً في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، عبر مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة والبنية التحتية والخدمات اللوجستية والرقمنة.
وكان من أبرز ما ميّز هذه الاجتماعات، الاهتمام الواضح بالقطاعات المستقبلية، خاصة الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، والروبوتات، والطاقة النووية، والتقنيات المتقدمة. فقد أدرك البلدان أن المستقبل الاقتصادي سيكون مرتبطاً بشكل أساسي بهذه القطاعات الحديثة، التي تمتلك القدرة على تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية تماماً. فالذكاء الاصطناعي على سبيل المثال، أصبح ضرورة حقيقية في مجالات الصناعة والخدمات، لما يوفره من زيادة في الكفاءة والإنتاجية، وخفض في التكاليف. أما الحوسبة الكمية، فهي مرشحة لأن تحدث ثورة حقيقية في كيفية التعامل مع البيانات الكبيرة والمعقدة، ما يجعل من الاستثمار فيها أولوية استراتيجية. إضافة إلى ذلك، يمثل الاستثمار في الروبوتات والطاقة النووية والتكنولوجيا المتقدمة خطوة مهمة لبناء اقتصاد قوي ومستدام، يعتمد على الابتكار والتطوير المستمر ويخلق فرصاً جديدة للأجيال القادمة.
إلى جانب ذلك، خصص الاجتماع اهتماماً خاصاً بدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والتي تعد اليوم العمود الفقري للنمو الاقتصادي الحقيقي. فقد تم الاتفاق على توفير برامج تمويل موجهة خصيصاً لدعم هذه الشركات وتشجيع الاستثمارات والشراكات المتبادلة بين رواد الأعمال من كلا البلدين.
كما شمل التعاون بين الإمارات وإسبانيا مجالاً حيوياً آخر هو قطاع السياحة، حيث ركّز الطرفان على تعزيز التعاون السياحي وتنظيم فعاليات مشتركة، ما يعكس إدراك البلدين أهمية هذا القطاع كرافد اقتصادي أساسي، خاصة مع ارتفاع عدد السياح وتزايد حركة النقل الجوي بينهما.
إن التعاون الإماراتي الإسباني في هذا الإطار يقدم رسالة واضحة للعالم مفادها أن العلاقات الدولية اليوم لم تعد محكومة فقط بمعايير القوة التقليدية، بل صارت تعتمد بشكل أكبر على الذكاء الاقتصادي، والابتكار التكنولوجي، وبناء الشراكات المتوازنة التي تحقق مصلحة مشتركة. ومن هنا، فإن هذا التحالف الاقتصادي الاستراتيجي يشكل نموذجاً مهماً ومثالاً للدول التي تسعى للتكيف مع متطلبات المستقبل.
ومن خلال هذه الرؤية الاستراتيجية الواضحة، باتت الإمارات وإسبانيا ترسمان طريقاً جديداً في العلاقات الدولية، يرتكز على التكامل الاقتصادي الذكي، وعلى مواجهة التحديات المستقبلية بخطط مبتكرة وواضحة.
وفي خضم عالم سريع التحول، تسلط هذه الشراكة الضوء على حقيقة مهمة: إن المستقبل لا يُبنى عبر تنافس الدول على مصادر القوة التقليدية، بل من خلال التعاون الاقتصادي الذكي، والاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، وتوظيف الابتكار في حل المشكلات المشتركة، وهو النهج الذي تمثله اليوم الإمارات وإسبانيا.
أخيراً، تؤكد هذه الشراكة الإماراتية الإسبانية أن العالم يتجه اليوم نحو مرحلة جديدة تتطلب من الدول إعادة صياغة استراتيجياتها الاقتصادية والدبلوماسية بشكل مبتكر. فالمستقبل ينتمي إلى أولئك الذين يجيدون بناء جسور التعاون الذكي، وتوظيف الابتكار والتكنولوجيا في خدمة مصالحهم المشتركة، لتحقيق نمو مستدام ينعكس إيجاباً على شعوبهم، ويضمن الاستقرار والازدهار في عالم مشترك ومستدام.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى