الأولويات الجيوسياسية لإدارة ترامب
الرئيس الأميركي المنتخب يدخل هذه المرة ومعه مفاتيح أساسية كانت غائبة عنه في 2017
كتب وليد فارس, في “اندبندنت عربية”:
من التجارب السابقة التي مرت على البيت الأبيض، نعلم أن ليس كل ما يعلن عنه كأولوية يصبح أولوية سياسية فعلية. لذلك، ينتظر أصحاب القرار والمراقبون والسياسيون والإعلاميون يوم 20 يناير المقبل ليتحققوا من أي سياسات ستترجم على أرض الواقع بدقة.
فيما يتهيأ الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب للدخول إلى البيت الأبيض بعد أداء قسم اليمين في صباح 20 يناير (كانون الثاني) 2025، تطرح الأسئلة حول الأولويات الجيوسياسية للفريق الجديد بعد توليه الإدارة وبدء العمل في وزاراتها وأجهزتها.
يواجه العالم، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، تحديات ستشغل المجتمع الدولي والرأي العام الأميركي لأربعة أعوام متتالية. الحملة التي خصصها ترمب بخطابات متعددة وبيانات وتصريحات وتغريدات كشفت عن بعض هذه الأولويات. ولكن من التجارب السابقة التي مرت على البيت الأبيض، نعلم أن ليس كل ما يعلن عنه كأولوية يصبح أولوية سياسية فعلية. لذلك، ينتظر أصحاب القرار والمراقبون والسياسيون والإعلاميون يوم 20 يناير المقبل ليتحققوا من أي سياسات ستترجم على أرض الواقع بدقة.
سمعنا خلال المهرجانات التي تحدث فيها ترمب عما يسمى الأولويات القومية، وعلى رأسها الأمن القومي الأميركي إلى جانب أولويات اقتصادية، اجتماعية، ودبلوماسية.
سنحاول في هذا المقال، ونحن على بعد أسابيع قليلة من تسلم الإدارة الجديدة، التوقف عند ما نعتقده أولويات أمر واقع، أي تلك التي تربط بين الإعلانات الانتخابية وما سيحدث فعلياً عندما يجتمع أعضاء الإدارة وأجهزتها مع الرئيس في المكتب البيضاوي. كما سنحاول استشراف الملفات التي قد تصعد إلى المستويات العليا من هذه اللائحة، وما هي المشاريع أو الملفات التي حظيت بتأييد كبير في المهرجانات الانتخابية وصَفق لها المحازبون، لكنها قد لا تكون في مقدمة الأولويات بعد بدء الإدارة في عملها.
ما يمكن تمييزه هو الملفات التي عُدت حاسمة وضرورية، لكنها تحتاج إلى وقت أطول، توافق أعمق بين الآراء، وظروف دولية أفضل، وبين الملفات التي لم تكن على رأس الأولويات، لكنها قابلة للبدء فوراً لأنها لا تواجه تأثيراً كبيراً من الخصوم. هذه الملفات يمكن للإدارة، في ضوء التطورات التي حصلت منذ انتخابه، المباشرة بها. ومن أبرزها الإصلاح الإداري والتعيينات في السلطة الجديدة.
في الفترات الرئاسية الماضية، كان موضوع التعيينات الجديدة وتعبئة المناصب أمراً ثانوياً بالنسبة للرأي العام الأميركي. فعادة، يأخذ الرؤساء الجدد وقتهم في التعيينات. وبالطبع كان ولا يزال يُنظر دائماً إلى الأشخاص الذين سيشغلون المناصب العليا في الإدارة، كوزيري الخارجية والدفاع، ومستشار الأمن القومي، ومدير البيت الأبيض، تليها مناصب الأجهزة الاستخباراتية والسفراء في الدول المهمة.
لكن هذا الأمر سيختلف في هذا العصر ومع هذا الرئيس. إذ إن ترمب وفريقه عانا في السابق من “انتفاضات” ضد قراراته من قبل مسؤولين ومديرين في إدارته السابقة. ترمب قادم ومعه لائحة طويلة من المسؤولين الذين يخطط لاستبدالهم بسرعة، وأبرزهم رؤساء الأجهزة الاستخباراتية، والدفاعية، والأمن القومي، وكل ما يرتبط بعمق السلطة داخل الولايات المتحدة. إذ إن فريق ترمب أدرك بعد تجربته السابقة أن عدم تغيير هؤلاء المسؤولين في الأسابيع الأولى من حكمه سيكلفه الكثير لاحقاً. ورأى أن غياب المسؤولين الذين ينفذون سياساته سيؤثر على إدارته ولهذا السبب من المتوقع أن يباشر بتعيينات شاملة وسريعة. ومع ذلك، ستحتاج هذه التعيينات إلى بعض الوقت، وستكون الأولوية لإدارته، إذ سيركز أولاً على هوية الفريق الذي سيحكم معه قبل أن يبدأ بمعالجة الملفات الكبرى.
رأينا بوضوح أنه، في الفترة بين انتخابه وتسلمه للسلطة، أعلن ترمب التعيينات الكبرى بشكل معاكس لما فعله في ولايته السابقة. ومن أبرز هذه التعيينات وزارة العدل، ومديري مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي آي”، والاستخبارات المركزية، ووزير الدفاع، والأجهزة الاستخباراتية المشتركة، إضافة إلى مواقع مهمة للإدارة القادمة.
هذا النهج يُظهر أن ترمب يدخل هذه المرة ومعه مفاتيح أساسية كانت غائبة عنه في 2017، حين تأخر في تعيين هذه المناصب. ما حدث حينها هو أن بعض هذه المواقع شهدت “تمرداً”، مما أثر سلباً على أعوام حكمه. الآن، يبدو أن ترمب تمكن من السيطرة على هذا الأمر، ويدخل الإدارة الجديدة وهو وهو متمكن.
الشرط الأساس لنجاح هذه التعيينات هو قدرته على التفاوض مع المؤسسة التي ستحسم هذا الأمر، أي مجلس الشيوخ، الذي يمنح الثقة لمرشحي الرئيس. وقد خصص ترمب وقتاً للعمل مع حلفائه في الكونغرس، حيث لديه أغلبية وضمن، بحسب ظنه، أكثرية ساحقة لمرشحيه. ومع أن العالم ينتظر من ترمب البدء بحسم الملفات الخارجية المهمة، إلا أنه سيركز أولاً على تمرير التعيينات وترسيخ قاعدة فولاذية لاتخاذ القرارات بثبات.
يتبع ذلك مباشرة ملف المهاجرين ومعه ملف الحدود مع المكسيك. هذا الملف المرتبط بين الداخل والخارج كان وعداً رئيساً للمرشح ترمب وحصل على أكثرية الأصوات بناء على وعده، وينقسم إلى قسمين، الأول شعبي تؤيده كل القوى التي رافقت ترمب حتى خروجه من السلطة، وهو نقل كل المهاجرين غير الشرعيين إلى خارج الحدود وهو مشروع كبير ولديه تحديات مما يجعله دقيقاً محفوفاً بالأخطار. فهو وعد بترحيل المهاجرين غير المسجلين، الذين قد يصل عددهم إلى عشرات الملايين، وسيشرع ترمب بالبدء أمام الرأي العام بتحديد الفئات وإعطاء التعليمات لوزارة الهجرة والداخلية والأمن الوطني للبدء بإخراجهم. في المبدأ سيأخذ ترمب وقتاً ليؤكد للرأي العام أنه بدأ بتتفيذ وعوده ولكن التنفيذ على الصعيد الاستراتيجي سيأخذ وقتاً وسيكون أمامه تحديات.
ويرتبط ذلك بالمشروع المرافق له أي السيطرة على الحدود الجنوبية وكان ترمب اتهم إدارة جو بايدن بفتح الحدود أمام الجميع مما شكل مشكلة كبيرة ومن ثم فإن إقفال الملف يبدأ بالسيطرة أولاً على الحدود ونشر قوات أكبر واستمرار بناء الجدار وإجراء اتفاقات مع المكسيك لمنع دخول المهاجرين باختصار إعادة “أمركة الحدود” هو هدف ترمب.
وإذ ينتظر الشرق الأوسط تحرك ترمب فوراً باتجاه حل المعضلات وإعلان وقف إطلاق النار ومنع الحروب، فإن الأولوية السياسية الخارجية ستكون بوقف الحرب في أوكرانيا، والبعض يتساءل لماذا الشرق الأوسط ليس أولوية؟ الرد يأتي من المراقبين من كثب لما يجري في واشنطن أن ترمب يعد ما يجري في أوكرانيا أخطر من أي شيء لأن أحد أطراف الحرب روسيا وهي قوة نووية، وتكلم كثيراً خلال الحملة الانتخابية عن ضرورة وقف إطلاق النار.
إذاً، المسعى الأول سيتمحور حول الحصول على وقف لإطلاق النار بين موسكو وكييف، ولكن ذلك لن يحسم الملف، لأن الهدف الأول وقف إطلق النار ومراقبته وبعدها تنتقل اللجان المتخصصة لمفاوضات قد تكون طويلة، ولكن ترمب يريد أن يخرج للرأي العام الأميركي والعالمي أنه توصل لوقف لإطلاق النار.
بعد ذلك، تنتقل الأولويات إلى الشرق الأوسط، حيث تشتعل الحروب وتتداخل الأزمات. من غير الواضح من أين ستبدأ المفاوضات، ولكن العلاقة المميزة بين ترمب وبنيامين نتنياهو، وبينه وبين التحالف العربي ستتيح فرصة للتركيز على الملفات الخطرة في المنطقة.
من أبرز هذه الملفات الوضع في اليمن، حيث بدأت تظهر محاولات أميركية لحسمها. إلى جانب ذلك، هناك قائمة من القضايا المترابطة، تشمل علاقة الولايات المتحدة وإسرائيل بالنظام الإيراني، إضافة إلى قرارات سريعة حول الأوضاع في جنوب لبنان، وسوريا، وغزة، وبعض النقاط داخل الضفة الغربية.
هذه الملفات جميعها تبدو مرتبطة بما سيحدث في سياق التصعيد أو التفاوض مع إيران، وهو موضوع سيكون له تأثير كبير على مجمل السياسة الأميركية في المنطقة. وسنعود لاحقاً لتفصيل هذا الجانب.
تبقى هناك أولويات أعلنها ترمب على الصعيد الاقتصادي، خصوصاً داخل الولايات المتحدة. من المتوقع أن يصدر عدة قرارات تنفيذية، لكنها لن تقدم حلولاً سريعة. ومع ذلك، تهدف إدارة ترمب إلى الإعلان عن هذه الحلول لبدء النقاش حولها، خصوصاً في ما يتعلق بالقدرة الشرائية للمواطن الأميركي.
يركز ترمب على تفاصيل الحياة اليومية للأميركيين، بما في ذلك أسعار المواد الأساسية والنفط. وبشكل عام، يبدو أن لدى ترمب مجموعة من الملفات الاقتصادية التي يمكنه البدء في تنفيذها بفضل الدعم الشعبي الذي يحظى به.
أما في مجال الأمن والدفاع، فإن فريق ترمب سيعمل على تعزيز وإصلاح القدرات العسكرية للولايات المتحدة.
هذه لمحة عما قد نشهده في فبراير (شباط) 2025… لننتظر ونرى.