رأي

الأمم المتحدة.. نهر كلام لا يجف

كتب عبدالله بشارة, في “القبس” :

أول مرة أدخل أبواب مقر الأمم المتحدة كانت في ديسمبر عام 1963، حيث عقدت دورة الأمم المتحدة متأخرة لخلافات بين الاتحاد السوفيتي والغرب حول ميزانية المنظمة، وبدلا من سبتمبر تحولت إلى ديسمبر، حيث كنت في معية الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية، الذي يترأس وفد الكويت للدورة.

وأول ما يشد الانتباه التكتل البشري عند أبوابها وفي ممراتها، وعدد القاعات التي تنعقد فيها الاجتماعات، وأكبر قاعاتها تلك التي يتحدث منها ممثلو الدول من ملوك ورؤساء ووزراء وممثلي الدول الأعضاء، وهي الأهم في المبنى، لكن الأكثر إغراء لتجمعات الوفود القاعة الكبرى، التي يتوافر فيها الشاي والقهوة، وهي المكان المفضل للقاءات الثنائية.

وربما أكثر ما يجذب الانتباه هو اختلاف الألوان والملابس والأشكال والثقافات، وطبعاً الأولويات والاهتمامات.

لكن ما تنفرد به الأمم المتحدة هو التواجد العالمي للحكومات التي تدير هذا الكون، وتوفيرها التواصل مع الجميع من دون الحاجة إلى عبور المحيطات والفضاءات، فالعالم كله يتواجد داخل ذلك المبنى.

كما يتواجد داخل المبنى، ليس فقط ممثلو العالم، وإنما تقدم الأمم المتحدة ملخصاً لكل ما يفكر فيه العالم، وكل ما تقوله الحكومات، ليس فقط ما يدور في نيويورك، لأن المنظمة تقدم موجزاً يومياً عما يدور في مختلف فروعها المتواجدة في جنيف، وفيينا ونيروبي عاصمة كينيا، بحدود خمسة آلاف صفحة يومياً تعطي القارئ حقيقة ما يتفق عليه حول العالم وما يختلف حوله، وما يشكل العاجل في طلباته وما يهدد سلامته.

وعندما أصبحت المندوب الدائم للكويت في المنظمة، كنت أحرص على قراءة هذه الأوراق، وأنصح أعضاء الوفد بقراءتها، بعضهم يقرأ وبعضهم يستثقل القراءة.

خرجت من الأمم المتحدة بعد أن قضيت عشر سنوات ذاهباً إلى الرياض، لم أكن الشخص الوحيد الذي قضى فيها هذه السنوات، فهناك كثيرون ظلوا فيها أكثر من عشرين سنة كسفراء، انسجموا مع أجوائها وارتبطوا في فضائها واستحسنوا مذاقها..

من المفيد أن أوجز بعض الملاحظات عن مسببات عشقها وعن الأذى من عيوبها، وعن تأثيرها في حياة السفراء:

أولاً: توفر الأمم المتحدة للدول صوتاً مسموعاً عالمياً، يعبر عن طموحاتها وآمالها، فمن الدول من تطلب العون لمساعدتها في توفير شيء من احتياجاتها السياسية أو الاقتصادية، أو شكوى بعض الدول من تطاولات إقليمية أو مضايقات الجيران، وتنشد المشاركة اعتماداً على وحدة الأمن العالمي التي لا تتجزأ.

ثانياً: من دون الأمم المتحدة لا مكان آخر تتحدث فيه الدول عارضة استعدادها للمساعدة، ومتبرعة ببرامج التنمية في الدول الفقيرة، وقد برزت الحاجة إلى لجان تعبّر فيها الدول عن مساهمتها لدعم الآخرين من الدول الفقيرة، أو التي بحاجة لخبرات فنية.

ثالثاً: توفر المنظمة للدول الأعضاء إطاراً يتمثل في مجلس الأمن، يطرح من خلاله قضاياه، حاملة آمالها بموقف يعالج محنتها ويزيل همومها ترجمة لوحدة الأمن العالمي.

ورغم الأزمات، فإن معظمها لن تنعشها الأمم المتحدة بسبب قيود الفيتو، التي تهدم الإرادة العالمية، وتجهض احتمالات العدالة لمصالح دول لا يهمها وهج العدالة، ولا تعبأ بمقام ميثاق المنظمة.

رابعاً: توفر الأمم المتحدة خبرات سياسية واقتصادية وفنية ومعونات لوجستية، تقدم للدول في بداية الاستقلال، وأحياناً تكون تحت وصايتها، ومن أهم مسؤولياتها تواجدها المؤثر لتثبيت السلام بين الدول، كما نراها في جنوب لبنان، وكما كانت في سيناء قبل حرب 1967، ومتواجدة في شكل مراقبين لتطويق التوتر بين بعض الدول.

خامساً: تمثل الأمم المتحدة المنبر العالمي الوحيد، الذي يسهل لزعامات الدول وقيادات منظمات التحرير لتقديم رسالة تصل إلى جميع البقاع عما تريد تحقيقه، جاء عرفات زعيم منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974، شارحاً معاناته ومعبراً عن آمال شعبه بقيام الدولة الفلسطينية، ولم يقدم مبادرة ينشغل بها العالم نحو حلول سلمية، لهذا لم يترك أي أثر يحرك القضية.

سادساً: جاءت شرعية تحرير الكويت من قرار مجلس الأمن باتفاق الدول الكبرى على تخليصها من الغزو الصدامي ترجمة لإرادة عالمية جامعة قادتها الولايات المتحدة وبريطنيا وفرنسا وخمس وثلاثين دولة، في تحالف غير مسبوق لاستعادة شرعية الدولة ونظامها السياسي، ويبقى أداء الأمم المتحدة حول الكويت استثنائياً، لأن الجريمة استثنائية في جنونها وفي استهزائها بالأمن العالمي.

سابعاً: تتوزع أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة على ست لجان، تتناول نزع السلاح والاقتصاد والتنمية، وتصفية الاستعمار، والتعاون الثقافي والقضايا الاجتماعية، والشؤون القانونية، والشؤون الإدارية والمالية، وتبقى هذه الموضوعات بقليل من التقدم، ويتم تنفيذ القرارات وفق قناعات الدول، ودائماً يتأخر التنفيذ، ونادراً ما يتم إنجاز جميع محتويات القرار، ولهذا تصاب الوفود بشيء من الخيبة، ومع مواصلة التكرار دون نجاح، تبرز حالة تصل إلى الضجر من المنظمة U.N. Fatigue.

ثامناً: هناك سفراء استمر بقاؤهم لأكثر من عشر سنوات، نادراً ما كان ذلك بسبب أدائهم الرائع، وإنما يرجع البقاء الطويل إلى حرص حكوماتهم على إبعادهم عن الشأن المحلي، وتشترك بعض الدول العربية في هذا القرار.

كما يعود السبب إلى رغبة السفير في الحصول على وظيفة في سكرتارية الأمم التحدة، وانتظار اجراءات البقاء في الولايات المتحدة، بدلاً من العودة إلى الوطن.

هناك عدد من السفراء لا يحضر الجلسات ولا يتابع المداولات، ونادراً ما يدخل مبنى الأمم المتحدة.

تاسعاً: يستطيع السفير أن يبقى سنوات من دون أن يفعل شيئاً سوى الحضور إلى المبنى، والبقاء في قاعة السفراء الواسعة، وقراءة بعض التقارير، فالسفير الذي لا يشارك في الخطابات، لا يتعرف عليه أحد، سوى قليلين من ممثلي دول الجوار، ويعود إلى بلده من دون أن يتذكره السفراء الآخرون.

كما لا يرى بعض السفراء ضرورة تواجدهم داخل المبنى، ومن دون الظهور على المنصة لا يمكن تحديد هوية السفير وسط الأعداد الكبيرة التي تتجول داخل المبنى.

عاشراً: من سلبيات العمل في الأمم المتحدة هو الشعور بغياب الحصاد، وعدم توافر المكاسب التي تحصل عليها الدولة، لأن الدبلوماسية المتعددة الألوان لا تفرز شيئاً ملموساً تكسب منه الدولة، على عكس العمل في الدبلوماسية الثنائية، حيث تعقد الاتفاقات حول الاقتصاد والتجارة والتنسيق السياسي، والتواجد في منظمات إقليمية أمنية، أو حول تنسيق المواقف لتأمين التكامل والتعاون.

سمعت، خلال وجودي في نيويورك، الكثير من الضجر، لأن الأمم المتحدة لا توفر معاهدات ثنائية ولا تقدم قروضها، ولا تضمن الدول، وتنفذ فقط ما يوافق عليه الأعضاء، كنت أسمع دائماً عن محدودية الفوائد، التي تأتي من فعاليات الوفود.

السفير الوحيد الذي ظل حتى وفاته هو المرحوم جميل البارودي، سفير المملكة العربية السعودية، الذي عمل مع الملك فيصل منذ عام 1945 حتى وفاته في نيويورك في منتصف الثمانينيات.

من دون الأمم المتحدة يعيش العالم في اضطراب وفوضى تزداد وسيطرة قانون الغاب، مع غياب التواصل بين البشر، وتبقى الأمم المتحدة ضرورة يمرض العالم من دونها، ويستمر نهرها من الوثائق والمفردات بلا توقف، وتستمر الشكوى من عجز المنظمة، ليس لمسبباتها، وإنما من اختلاف المصالح بين أعضائها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى