الأمازيغية… على سبيل التذكير فقط
كتب أمين الزاوي في صحيفة إندبندنت عربية.
لا يوجد أمر مستعجل أكثر من تعلم لغة هي ذاكرة أمة ومرآتها.
بحسب تصريح وزير التربية الوطنية في الجزائر، فقد وصل عدد التلاميذ الذين يتعلمون اللغة الأمازيغية إلى نصف مليون، موزعين على نحو 30 ولاية في البلاد.
ما في ذلك شك، فالبلد لا يزال يسجل تأخراً كبيراً في العمل على مصالحة جميع أبنائه مع لغتهم الأكثر عراقة والتي تشكل ذاكرة الأمة بامتياز ألا وهي الأمازيغية.
إن الدستور الجزائري واضح وعادل، إذ يعترف باللغة الأمازيغية ويسجلها في مواده الصماء، أي تلك التي لا يمكنها أن تتبدل، كلغة وطنية ورسمية إلى جانب أختها اللغة العربية.
خلال العام الدراسي 1995-1996 انطلقت الجزائر، وللمرة الأولى، في تجربة تدريس اللغة الأمازيغية في المدرسة الجزائرية، وجاء ذلك القرار بعد نضال هوياتي وثقافي صارم ونبيل.
اليوم وبعد قرابة 30 عاماً، لم يعُد تدريس هذه اللغة أمراً أيديولوجياً، إنها قضية تاريخية وأخلاقية ووطنية. ولن يتمتع الشهداء الذين قضوا في حرب التحرير الكبرى التي انطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، وشهداء “الربيع الأمازيغي” في أبريل (نيسان) 1980، و”الربيع الأسود” في يونيو (حزيران) 2001، لن يتمتعوا، بنوم عادل في قبورهم إلا إذا رأوا، بأم أعينهم، اللغة الأمازيغية وقد تم تعميم تدريسها في جميع مدارس الجزائر الجديدة.
الكاهنة تراقبنا من على بعد أزيد من 13 قرناً، ومولود معمري يتأمل المشهد منذ الربيع الأمازيغي الذي أشعله بمحاضرة عن الشعر الكلاسيكي الأمازيغي.
لقد أضحى واقع اللغة الأمازيغية وبعد 30 عاماً من التدريس، قريباً من الأطروحة الحضارية وأبعد من المقاربة السياسية الأيديولوجية الضيقة، فجميع الجزائريات والجزائريين فخورون بهويتهم الأمازيغية من دون تطرف أو كراهية لأحد أو للغة أو لحضارة، لقد بدأ الصوت الحكيم يرتفع ويعلو على الأصوات المتعصبة.
إن جزائر اليوم لا تريد حملة “التمزيغ” على طريقة حملة “التعريب” في السبعينبات، وما هو مطلوب اليوم وفي المقام الأول، وضع الإمكانات المادية والتكوينية والبيداغوجية تحت تصرف الفاعلين في الحقل التربوي الخاص بترقية اللغة الأمازيغية، وهذه الإمكانات لن تكون فاعلة إذا لم تكُن من ورائها مساندة سياسية من ذوي القرار العالي.
إن تعليم اللغة الأمازيغية لا يعني مطلقاً، كما قد يروّج له بعض المغرضين من محترفي الفتن، وضع حاجز أو شن حرب على اللغة العربية، على العكس تماماً، فمساندة تعليم الأمازيغية هو الدفاع عن أخوة لغوية قوية وتاريخية بين العربية والأمازيغية عرفها المجتمع الجزائري منذ قرون، إذ يخبرنا تاريخ الفهماء بأن أكبر النحاة وفقهاء اللغة العربية في شمال أفريقيا هم علماء أمازيغ يفتخر بهم العرب ويفتخر بهم الأمازيغ على حد سواء.
ليس للغة العربية ما تخافه في الجزائر، إنها محمية من جميع الجهات، متمكنة من الإدارة والإعلام والمدرسة والديبلوماسية والدين، وعلى حملة مشروع تعميم تدريس الأمازيغية ألا يترددوا أو يتراجعوا أو يفشلوا، فمستقبل البلد لن يكون جميلاً وقوياً إلا بهاتين اللغتين الكبيرتين والمتعايشتين والمتنافستين منافسة شريفة في إنتاج الخيرات الأدبية والعلمية لأبناء الوطن الواحد والإنسانية جمعاء.
إن التعددية اللغوية ليست عامل تضعيف البلدان أو طريقاً لتفكيك وحدتها، بل على العكس من ذلك تماماً، فهي عامل قوة لكل بلد يحلم بالديمقراطية والتنوع والعصرنة، ولنا في الدول المتقدمة نماذج حية في الغرب وفي الشرق، من سويسرا إلى الصين مروراً بالهند وجنوب أفريقيا.
في الجزائر، وعلى رغم كل الصعوبات والأعطاب، تتقدم اللغة الأمازيغية تتقدم على كل الجبهات، الثقافية والفنية والأدبية والبيداغوجية، فمنذ 30 عاماً تقريباً، أي منذ أول دخول مدرسي انطلق فيه تعليم اللغة الأمازيغية، هناك أشياء كثيرة تحققت، وهناك أشياء كثيرة تنتظر بفعل فاعل سياسي أو بيروقراطي أو تطرف، ولكن أمام كل ذلك ليس من حق المثقفين ولا الوطنيين النزهاء أن يسقطوا رهائن التشاؤم الثقافي أو السياسي أو البيداغوجي.
إن الدفاع عن حق الأمازيغية في الوجود المدرسي المعمم هو الدفاع عن الدستور الذي يعدّ أعلى وثيقة سياسية في البلد، لكن ما يلاحظ خلال العشرية الأخيرة هو سكوت الأحزاب السياسية جميعها، الأحزاب الوطنية والعلمانية والإسلامية، عن دعم قضية اللغة الأمازيغية، وهم في ذلك كأنما يديرون ظهورهم لشهداء “ثورة التحرير” الكبرى وشهداء “الربيع الأمازيغي” وشهداء “الربيع الأسود”.
وفي ظل خفوت الصوت السياسي الحزبي، يجب الافتخار والاعتراف بما يقدمه الكتاب والفنانون يومياً لأجل ترقية اللغة الأمازيغية ومنحها مكانة وحضوراً وازنين، آلاف الكتب الأدبية من توقيع كتاب ينتمون لأجيال مختلفة، في الرواية والقصة والشعر والنقد والمسرح، كاتبات وكتاب، يكتبون وينشطون ويسوّقون كتبهم بطرق نضالية مثيرة للإعجاب، في معارض الكتب المحلية، وفي القرى والمدن الصغيرة، نضال أدبي وثقافي يستحق الاحترام والتقدير.
وآلاف الأغاني والإبداعات الموسيقية المعاصرة أو الفلكلورية من صميم الثقافة الأمازيغية وفيها، استطاعت أن تشدّ ملايين الجماهير من كل مناطق الوطن ومن دون تمييز جهوي.
لكن إذا كان الأدب بالأمازيغية يحقق حضوراً لافتاً وقوياً، ويعرض يوماً بعد آخر من قاعدة قرائه في الداخل وفي المهاجر، فإن مشروع أكاديمية اللغة الأمازيغية التي تأسست في الـ27 من ديسمبر (كانون الأول) 2017، وتم الإعلان عن تشكيل هيئتها الرسمية المكونة من مجموعة من الباحثين والجامعيين والبيداغوجيين والمثقفين، قد تم إهماله والسكوت عنه، مع العلم أنها مؤسسة يفترض أن تكون عاملاً مركزياً في ترقية اللغة الأمازيغية.
بعيداً من كل حس سياسوي فارغ، إذا كان تعليم اللغة الأمازيغية يتقدم شيئاً فشيئاً، وحتى لو كان بصعوبة وتعثر، فإن الباحثين من اللسانيين والبيداغوجيين لم يحسموا حتى الآن في أمر اختيار الحرف الذي يعتمد في كتابة هذه اللغة، فحتى الآن تكتب الأمازيغية بالحرف اللاتيني في بعض الجهات، وتكتب بالحرف العربي في جهة ثانية، وبحرف “التيفيناغ” في جهة ثالثة، مع العلم أن مؤسسات الدولة الرسمية تذهب شيئاً فشيئاً نحو اعتماد حرف “التيفيناغ” من دون أن تقرر ذلك رسمياً.
إن اختيار الحرف الذي تكتب به الأمازيغية عليه أن يخضع للتوافق العلمي ثم للمصلحة التي يمكن أن يقدمها هذا الحرف أو ذاك لدفع الأمازيغية إلى الأمام وبثبات، بعيداً من ارتجاجات الأيديولوجيا وصخبها، وهذا عمل من صلاحية المتخصصين من الباحثين اللسانيين وعلماء اللغة.
وحتى تحافظ الأمة على مناعة سلمها الاجتماعي والسياسي، ويكون محمياً من كل فتنة تتربّص به من الداخل أو الخارج، عليها أن تعلّم أبناءها لغتهم الأم، فالإنسان لن يخون حليب أمه أبداً، إن حب الوطن من تقديس حليب الأم، إن السلم لا يعني أبداً الركود، إن السلم الاجتماعي هو فرصة لدعم دينامية التغيير في مجتمع تواق إلى التقدم والعدالة والحياة الكريمة.
إن العناية باللغة الأمازيغية ودعمها في المدارس والإعلام والإبداع، سلاح فتاك ضد كل محاولة للتدخل الخارجي في إدارة شؤون الهوية والنمو والتحالفات.
هناك ثلاثة حقول شهدت تقدماً ملموساً في باب إعادة الاعتبار للغة الأمازيغية في الجزائر، وهي أولاً الأدب (الرواية والشعر والمسرح) وثانياً الموسيقى وثالثاً الترجمة.
إننا لا نحلم إلا بلغة أمهاتنا، وحين تحمل الآداب اللغة الأمازيغية عالياً، فإننا ندرك أن المبدعين لا يزالون يحلمون بلغة الأم المقدسة التي لا بديل لها، وحين يغني فنان مثل إدير حكمته الموجودة داخل نصوصه الشعرية الصوفية الغامرة بالحب والتأمل، فإننا ندرك أن أعمق الأحاسيس الإنسانية لن تكون صادقة ومؤثرة إلا حين ترتبط بصوت الأم وبلغتها، مما نستشفه في الأغنية الأمازيغية العالمية.
إننا حين نرى نصوصاً عالمية عالية مترجمة إلى اللغة الأمازيغية كنصوص همنغواي وألبير كامو وجبران خليل جبران ونزار قباني وشكسبير وسارتر وهاري بوتر لرولينغ والقرآن الكريم وغيرها، فهذا مؤشر فلسفي يقول إن جميع اللغات جميلة وجميعها ناضجة وكبيرة.
إن تعلم أية لغة مهما كانت، ناهيك عن لغة الأم التي هي فوق اللغات جميعها، هي نافذة مفتوحة على العالم وعلى الأنا في الوقت نفسه.