رأي

الأكراد في سوريا على مفترق طرق

كتب جوان ديبو في صحيفة العرب.

الوقت ليس في صالح الأكراد بل في صالح المتربصين بهم؛ ليس فقط لأن أعداءهم هم الأقوى بل لأنهم أكثر دهاء.

منذ اليوم الأول لانطلاقة الثورة في سوريا ضد نظام الأسد في مارس 2011، لم تكن القوى السياسية الكردية في سوريا على مستوى الحدث. فقد كان الانقسام والتشرذم والتبعية للمحاور الكردستانية في أربيل وقنديل والعمل لصالح أجنداتها العنوان الأبرز للمرحلة والصفة الطاغية على المشهد البائس الذي لطالما كرر نفسه منذ عقود.

على هذا الأساس أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يعتبر عمليًا فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا، عن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بحكم الأمر الواقع سنة 2013، ثم أسس الجناح العسكري قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في 2015 بعد تلقي الدعم والمؤازرة والضوء الأخضر من الولايات المتحدة.

في المقابل ظهر المجلس الوطني الكردي، الذي يهيمن عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا، والذي يعتبر فرع حدك – أربيل في سوريا، في 26 أكتوبر 2011 بأربيل، وبعد مرور 24 يومًا فقط على تأسيس المجلس الوطني السوري الإخواني في إسطنبول، يا لها من مصادفة تاريخية! وانضوى فيما بعد تحت لواء الائتلاف السوري المعارض الموالي قلبًا وقالبًا لتركيا.

ومنذ ذلك الحين تحولت كردستان سوريا إلى ساحة تصفية حسابات غير مباشرة بين أربيل وقنديل، وإلى حلبة للتنفيس وإفراز السموم من قبل حدك في أربيل وبي كي كي في قنديل، دون أدنى اكتراث حقيقي بما تعرض له الوجود والمصير الكردييْن في سوريا من قبل تركيا وأعوانها من الفصائل الإسلامية السورية المعارضة، وما قد يحيق بهذا الوجود والمصير في قادم الأيام من قبل أنقرة ونفس الفصائل، لاسيما بعد انتصارها الأخير وسقوط النظام السوري وهروب بشار الأسد.

وعلى الرغم من المحاولات الأميركية الظاهرية الرامية إلى رأب الصدع بين الإخوة – الأعداء، إلا أنها لم تسفر إلا عن خيبة متوارثة ومتكاثرة ومتعارف عليها كرديّا.

والخلاصة الضمنية المخجلة وغير المعترف بها من قبل معظم الأكراد إلى غاية هذه اللحظة، هي أنه لا توجد إلى حد الآن حركة سياسية كردية مستقلة خاصة بالأكراد في سوريا على غرار بقية الحركات الكردية في بقية أجزاء كردستان الثلاثة الأخرى، وإنما فروع لأحزاب كردستانية، وخاصة لحدك في أربيل وبي كي كي في قنديل، على الأقل بالنسبة إلى معظم المرئيين والذين لهم وزن ودور وتأثير على الأرض في كردستان سوريا.

المبتغى من هذه العجالة هو أن المشهد السياسي والمجتمعي الكردي عشية الثامن من ديسمبر 2024 كان ومازال بائسًا وغارقًا في الظلام الدامس، ولم يتمايز البتة في الجوهر عما كان عليه إبان انطلاق الشرارة الأولى للثورة ضد نظام الأسد. لذلك من غير المتوقع ومن غير المنطقي حدوث انقلاب سحري في العقل والسلوك السياسي الرسمي الكردي بين ليلة وضحاها، بما أن العقل السياسي الكردي مازال هو نفسه منذ عشرات السنين ويعيد إنتاج نفسه ببراعة نادرة مجترًا من نفس الثقافة والسلوكيات.

وبالتالي مازالت القراءة السياسية الكردية الرسمية بدائية ولا ترتقي في الوقت الراهن، كما كانت دائمًا، إلى مستوى الأحداث والتطورات شديدة الارتباط بالشأن الكردي السوري. وكنتيجة لذلك ليست هناك بحوزة الأكراد إلى الآن خارطة إنقاذ وطنية من شأنها إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتفادي المزيد من الضربات التي قد يكون القادم منها قاضيا وذا كلفة باهظة إذا لم يستجب العقل السياسي الكردي الرسمي للاعتدال والواقعية، وإذا لم يتقن هذا العقل الحد الأدنى من لعبة السياسة ويستوعب منطق العلاقات والسياسات الدولية.

التوقيت عامل حاسم في إعلان وتبني التغييرات التي تفرضها الضرورة والمرحلة، وأي تسويف في ذلك قد تتمخض عنه عواقب لا تحمد عقباها، على عكس ما تنتهجه الإدارة الذاتية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي حاليًا وكأن الوقت لصالحها، لا بل وكأن هناك متسعا من الوقت للمناورة ضد تركيا الجامحة للانقضاض عليها وتقويض أي مشروع كردي لإحقاق الحقوق سواء بالانتزاع أو عن طريق الحوار والمفاوضات مع السلطويين الجدد في دمشق، الذين ينوبون تركيا بدرجة أو بأخرى، أو كأنها مازالت تستقوي بالوجود الأميركي، وكأن هذا الوجود أبدي إلى ما لا نهاية. مع العلم أن الولايات المتحدة سبق لها أن تخلت عن قسد وعن الأكراد في 2018 عندما احتلت تركيا تل أبيض ورأس العين في خريف 2019 وقبلهما عفرين في ربيع 2018. وقد قالها صراحة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عقب انهيار نظام الأسد بأن تركيا تملك المفاتيح في سوريا وبأن لديه علاقات جيدة مع الرئيس التركي.

وبدل الانصياع لصوت العقل والحكمة ولأصوات عشرات الآلاف من الوطنيين الأكراد في سوريا، قام حزب الاتحاد الديمقراطي مؤخرًا بتجييش الأهالي في كوباني وحثهم على حمل السلاح في وجه تركيا وفق خطاب شعبوي منقرض، وفي دعوة استفزازية صريحة لتركيا وعملائها من الفصائل السورية المسلحة إلى التدخل وارتكاب المجازر ضد المدنيين في كوباني. والاتحاد الديمقراطي يعلم أكثر من غيره النتائج الكارثية التي قد تتمخض عن مغامرة من هذا النوع. وقد سبق للحزب أن خاض تلك المغامرة في عفرين بعد أن رفض تسليمها للروس، وكان يعلم علم اليقين أن عفرين آيلة إلى السقوط بأيدي الأتراك وعملائهم من الفصائل السورية المسلحة، ولكن مع ذلك مضى الحزب الأوجلاني في المغامرة التي كلفت احتلال عفرين من قبل تركيا الغازية ونزوح عشرات الآلاف من الأكراد.

وبدلًا من هذه المغامرات الدونكيشوتية، كان حريًا بقائد قسد مظلوم عبدي الإعلان خلال مؤتمر صحفي عام، وبحضور مختلف وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، عن الانفكاك الرسمي عن حزب العمال الكردستاني تنظيميا وسياسيا وأمنيا وعسكريا، والمطالبة بمغادرة جميع قيادات وعناصر بي كي كي إلى جبال قنديل، وإزالة صور زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من شوارع المدن والبلدات الواقعة تحت سيطرة قسد، وإشراك كافة الفعاليات السياسية والثقافية والمجتمعية والمسلحة الكردية والعربية والمسيحية في القرارات المصيرية دون إقصاء أحد، وتشكيل وفد كردي وإرساله إلى دمشق للتحاور بشأن جميع القضايا المعلقة مع أصحاب السلطة والنفوذ في دمشق، وليس الالتجاء من قبل بعض صقور الاتحاد الديمقراطي إلى خطاب شعبوي مندثر لا يختلف في الجوهر عن خطابات حماس وحزب الله والحوثيين الذين أذاقوا شعوبهم الأمرين بسبب مغامراتهم وتنفيذهم للأجندات الإيرانية.

من حق أي حزب وأي زعيم أن يقامر بأمواله وحياته، لكن لا يجوز لأي حزب أو زعيم المقامرة بأفراد شعب كامل وكأنهم ممتلكات خاصة وحقل تجارب. وإذا جاز لأي حزب أو زعيم ذلك، فهذا مؤشر واضح على عدم الاكتراث بالشعب والوطن وعلى أنهما مادة للمتاجرة في أسواق النخاسة السياسية ولصالح الأعداء والمتربصين.

ليس المقصود من هذا الكلام الاستسلام لتركيا دون مقابل، التي لا تكن سوى البغضاء لكل ما هو كردي ولكل مطالب بالحقوق الكردية، وإنما للقول بأن هناك دائمًا مساحة أخرى أو حلًا ثالثًا، ما بين التطرف والخطاب الشعبوي من ناحية، وما بين الاستسلام اللامشروط من ناحية أخرى. هذا الخيار يكمن في عدة خطوات تبدأ بالتبرؤ من حزب العمال الكردستاني وقيادته في قنديل وإخراج جميع قياداته وعناصره من المناطق الكردية في سوريا وإزالة كل ما يوحي بالارتباط والموالاة لهذا الحزب وزعيمه السجين شكلًا ومضمونًا. ومن ثم تذليل كافة العقبات أمام رص الصفوف داخليًا وإشراك الجميع في صياغة القرارات وتشكيل خلية من الجميع لدراسة وإدارة المرحلة الحالية بما في ذلك التواصل السريع والعلني مع دمشق، ومطالبة الغرب وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا بلعب دور الوسيط في التحاور المباشر مع تركيا لتبديد مخاوفها الأمنية.

الوقت ليس في صالح الأكراد في سوريا، بل في صالح المتربصين بهم، ليس فقط لأنهم الأقوى، وإنما لأنهم أكثر دهاء من الأكراد الذين تجمعهم تاريخيًا علاقة تنافرية نزاعية مع السياسة. هذه العلاقة الإشكالية وغير الحميمة بين الأكراد والسياسة كانت أحد العوامل الحاسمة وراء إخفاق كافة المساعي الكردية الكثيرة في سبيل انتزاع الحقوق. وهذا ما يشي به التاريخ الكردي الحديث والمعاصر. ببساطة، خصوم الأكراد يستخدمون جميع أوراقهم وببراعة فائقة من أجل كسر شوكة الأكراد وتليين عزيمتهم في المناداة بالحقوق، أما الأكراد فهم بارعون مبدعون في عدم استخدام الأوراق التي يمتلكونها، لا بل وإحراقها عن عمد وعن غير عمد.

آن الأوان لكي يغير الكردي نظرته الأحادية إلى السياسة على أنها تدور حول إعلاء مفاهيم الحق والحقيقة والحقوق واحتقار عكسها، هذه المفاهيم التي تبقى نسبية ومتفاوتة حسب الجهة التي تنظر إليها وتنادي بها، على أنها “فن الممكن، القابل للتحقق، وفن الأفضل المتيسر” كما قال أوتو بسمارك، لا بل إنها فن اقتناص الفرص وعدم تبديدها وإهدارها بعيدًا عن الأدلجة والشعبوية والغلوائية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى