اكتساح ترامب ومستقبل الحرب
كتب بدر الإبراهيم, في “الأخبار”:
الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة بات الرئيس السابع والأربعين. انتصار ترامب لم يقتصر على تحقيق الفوز بأصوات المجمع الانتخابي، وإنما تعدى ذلك إلى الفوز بالتصويت الشعبي، الأمر الذي فشل فيه كل مرشح جمهوري – بمن فيهم هو – منذ عشرين عاماً. لهذا دلالات مهمة، أبرزها اختراق ترامب للقاعدة الشعبية التي تصوت للديموقراطيين، وقد اتضح هذا الأمر في تراجع تأييد الديموقراطيين في المدن الكبيرة والولايات المعروفة بولائها للديموقراطيين، وتراجع نسب التصويت لهم بين الأقليات، مثل العرب والمسلمين والسود واللاتينيين. الانقسام الهوياتي تكرس مرة جديدة في هذه الانتخابات، لكن بشكل أقل بين الريف والمدينة، في ظل استياء شعبي واضح في المدن وضواحيها من الديموقراطيين ونهجهم.
العلامة الأبرز في الانتخابات هو فارق التصويت للديموقراطيين بين الانتخابات الماضية في 2020 والانتخابات الحالية، وهو فارق دال على حجم الغضب الشعبي من سياسات الديموقراطيين، وخاصة في قضايا الاقتصاد والهجرة، وتضعضع ثقة الناخبين بالحزب الديموقراطي، وقد صار حزب المؤسسة الحاكمة بامتياز في السنوات الأخيرة، وخير معبر عنها، ما يجعل فوز ترامب، رغم كل ما قيل عن أن قاعدته الانتخابية لا تتجاوز 45% من الناخبين، نتاجاً طبيعياً لفشل الديموقراطيين في إقناع قواعدهم قبل إقناع المترددين بالتصويت لنهجهم، الذي لا يجيب عن أسئلة الناس بخصوص الاقتصاد بالذات.
اللافت أن الليبراليين من أنصار الحزب الديموقراطي استعاضوا عن محاولة البدء بمراجعة نقدية لإخفاق حزبهم بتوجيه اللوم للعرب والمسلمين في ولاية ميشيغان المتأرجحة، محملين هؤلاء مسؤولية هزيمة هاريس بفعل عدم تصويتهم لها، في حين أُعلن فوز ترامب قبل ظهور نتائج ميشيغان، بسبب فوزه في الولايات المتأرجحة الأخرى مثل جورجيا ونورث كارولينا وويسكونسن، والأهم بنسلفانيا، ما يجعل تحميل العرب والمسلمين هزيمة هاريس مجرد هراء. مع ذلك، لا شك أن امتناع غالبية الناخبين العرب والمسلمين عن التصويت لهاريس أضرّ بحظوظها في ميشيغان، ورغم تشتت هذه الأصوات بين ترامب وجيل ستاين (مرشحة حزب الخضر الداعمة للحق الفلسطيني)، مع تصويت البعض لهاريس، إلا أن الكتلة العربية والمسلمة في ميشيغان، كما في ولايات أخرى، أعطت إشارة مهمة للديموقراطيين إلى ضرورة التعاطي معها بجدية أكبر، ولعل هذا كان أكثر ما يمكن أن تحققه هذه الكتلة مع انقساماتها، وهو أمر يمكن البناء عليه في إيجاد مساحة للتفاوض مع الحزبين مستقبلاً.
رغم الانقسامات، كان التوجه العام للكتلة العربية والمسلمة محكوماً بمسألة الحرب على غزة ولبنان، وهي المسألة التي يترقّب معظم الجمهور العربي موقف الفائز في الانتخابات منها. لم يكن من الممكن لمؤيّدي القضية الفلسطينية أن يروا فروقاً حقيقية بين المتنافِسَين، وهو ما يفسّر جزئياً تبعثر أصواتهم بين مرشحي الحزبين والمستقلين. في الوطن العربي، كان تأييد ليبراليي الأنظمة العربية صارخاً لترامب، حيث يجدون طروحاتهم ومصالحهم متسقة مع طرح اليمين في الغرب، في حين كان ليبراليو «الربيع العربي»، الذين يتماهون مع اليسار الليبرالي الغربي، يروّجون لدعم هاريس باعتبارها «أخف الضرّرين» في قضية فلسطين، بالإضافة إلى فروقات أخرى بينها وبين ترامب.
من المبكر قراءة توجّه ترامب حيال الحرب، خاصة قبل معرفة أعضاء فريقه، وما إذا كانوا من صقور المؤسسة الجمهورية أو من خارجها
لا يبدو سهلاً بعد عام من الإبادة في غزة إقناع غالبية الجمهور العربي بفروقات ذات أهمية بين هاريس وترامب في قضية الحرب، حتى مع رهان نتنياهو على ترامب، ذلك أن ما فعله بايدن لإسرائيل غير مسبوق، وإن كان في هذه الانتخابات من خسارةٍ لإسرائيل، فهي غياب بايدن عن المشهد، وهو العقائدي الصلب في مسألة دعم إسرائيل، والصهيوني حتى النخاع. بالفعل قد تتمايز هاريس عن بايدن في هذا الأمر، فهي ليست مؤدلجة حيال إسرائيل، لكنها كانت أقرب للسير مع الخيار الحربي للدولة العميقة. كما أنها فشلت في فصل نفسها بشكل واضح عن مسار إدارة بايدن، ولم تعمل على كسب الكتلة العربية والمسلمة بمواقف واضحة، ورفضت حتى استضافة من يمثّل الصوت الفلسطيني في مؤتمر الحزب الديموقراطي (فيما فعل ذلك ترامب في خطابٍ له).
ترامب أيضاً لا يتبنّى نظرة أيديولوجية لإسرائيل، لكن المسيحيين الصهاينة يشكّلون قطاعاً واسعاً من قاعدته الانتخابية، وهو يزايد على الديموقراطيين لكسب الصهاينة إلى صفّه، ولأنه ليس معنياً مثل بايدن والليبراليين الصهاينة بالحفاظ على فرص حلّ الدولتين (بوصفه ضمانة لمستقبل إسرائيل)، فهو مستعدّ لتقديم الدعم لخطوات اليمين الإسرائيلي في قضايا الاستيطان وضم الأراضي المحتلة، وشرعنة ذلك، وهو تحديداً ما يجعل نتنياهو وحكومته يستبشرون بعودته. بعد نقله السفارة الأميركية إلى القدس، واعترافه بضمّ الجولان، قد يخطو ترامب هذه المرّة نحو الاعتراف بابتلاع إسرائيل كامل الضفة الغربية.
لكن حسابات نتنياهو لا تراعي أن ترامب رجل أعمال متقلّب المزاج، يرفع شعار «أميركا أولاً»، ويرفض الانخراط في حروب. خلال عام كامل من الحرب، صرفت الولايات المتحدة 22.7 مليار دولار على المساعدات العسكرية المباشرة لإسرائيل والعمليات الأميركية في المنطقة، وهي كلفة تتصاعد في ظلّ الاحتياج الإسرائيلي إلى مزيد من السلاح والحماية الأميركية. قد ترسم كلفة الحرب حدوداً لدعم ترامب للحرب الإسرائيلية، وهو أحرص من بايدن على تجنّب التورّط في حرب مباشرة مع إيران، وهذا ما لا يتناسب مع طموح نتنياهو الراغب في دفع الولايات المتحدة لتنهي التهديد الإيراني النووي بنفسها. نشر الإعلام الإسرائيلي أخباراً حول طلب ترامب من نتنياهو إنهاء الحرب قبل تولّيه الرئاسة، لكن هذا لا يعني أنه سينهي الحرب بالضرورة، وإسرائيل تسعى إلى إطالة الحرب حتى تحقيق أهدافها. من المبكر قراءة توجّه ترامب حيال الحرب، خاصة قبل معرفة أعضاء فريقه، وما إذا كانوا من صقور المؤسسة الجمهورية أو من خارجها.
التعويل على توجّه الإدارة الأميركية المقبلة لإنهاء الحرب غرقٌ في الأوهام. الطريق لإنهاء الحرب يعبِّده العمل الميداني لتغيير المعادلات على الأرض، بما يسهم في تحديد الشروط لصفقة نهاية الحرب التي يمكن لترامب تبنّيها.