افتتاحية اليوم: دبلوماسية بلكنة محلية

أثار وصول سفير أميركي (ميشال عيسى) جديد من أصل لبناني ويتقن العربية بطلاقة موجةً من التفسيرات المتباينة. البعض رأى فيه “حظاً” للبنان، فيما إعتبر آخرون أنّ اللغة والقرابة الثقافية لا تغيّر كثيراً في ثوابت السياسة الأميركية التي تُصنع في واشنطن لا في بيروت. لكن بين هذين الرأيين مساحة واسعة لتحليل ما يمكن أن يعنيه وصول دبلوماسي يفهم البلد من الداخل، لا من وراء زجاج السفارة.
لا شك أنّ امتلاك السفير عيسى لخلفية لبنانية وقدرته على التحدث بالعربية يُعدّان، في الشكل، مكسبين للتواصل. فاللغة ليست مجرد وسيلة نقل، بل مفتاح إلى الذهنية المحلية، وإلى طبقات المعنى التي غالباً ما تضيع في الترجمة أو في الصياغات الدبلوماسية. القدرة على مخاطبة الشارع والسياسيين باللهجة نفسها قد تُسرع في بناء الثقة الشخصية، وهي نقطة أساسية في بلد تلعب فيه العلاقات الفردية دوراً كبيراً في تدوير الزوايا.
لكن هذه الإيجابية الشكلية تصطدم بقاعدة ثابتة: السياسة الأميركية تجاه لبنان تحدد وفق مقاربات استراتيجية مرتبطة بأمن إسرائيل، واستقرار المنطقة، وموقع لبنان ضمن هذه المعادلة. وبالتالي، لن تُبدل هذه السياسات لأن السفير يملك جذوراً لبنانية أو لأن مخارج حروفه العربية سليمة.
إن معرفة البلد وفهمه قد يترك أثراً فعلياً في مستوى فهم السفير للبنية اللبنانية: تعقيدات الطوائف، حساسية الشارع، طريقة صنع القرار. سفير يفهم “الشيفرة اللبنانية” قد يكون أكثر مهارة في قراءة الساحة، وتجنّب الأخطاء، وإيصال الرسائل بشكل أدق. وقد يستطيع أيضاً التقاط إشارات محلية تغيب عن دبلوماسي لا يعرف الفوارق بين ضاحية وأخرى أو بين خطاب وآخر.
هذه المعرفة قد تعزز دور واشنطن في لعب دور وسيط أكثر فاعلية في الملفات الاقتصادية والإصلاحية، أو في الحد من التوترات عند لحظات التصعيد. لكنّها لا تعني تلقائياً تغييراً جذرياً. فالدبلوماسي الملم بالبيئة قد يكون أيضاً أكثر قدرة على الضغط، لا فقط على التفاهم.
والسؤال الذي يطرح هل يستفيد لبنان فعلاً؟
إنّ السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان “حظ لبنان جيد”، بل ما إذا كان لبنان قادراً على استثمار وجود سفير يعرفه جيداً. فبين دولة مأزومة سياسياً واقتصادياً، وبين سفير يملك القدرة على الفهم لكن ليس القدرة على اتخاذ القرارات، يبقى هامش التأثير مشروطاً بمدى قدرة الأطراف اللبنانية على صياغة موقف وطني أو رؤية مشتركة يمكن لواشنطن أن تتعامل معها بجدية.
لا شك قد يساعد السفير الجديد في تسهيل الحوار، وكسر بعض الجدران النفسية، وربما في تقديم قراءات أكثر دقة لصانعي القرار في واشنطن. لكن تأثيره الإيجابي سيبقى محدوداً إن لم يجد في بيروت شركاء قادرين على التقاط اللحظة والاستفادة منها.




