افتتاحية اليوم: حقوقٌ معلّقة.. ودولةٌ عاجزة

من على الأرصفة، في الشوارع، وأمام مقرّ مجلس الوزراء، وعلى تخوم مجلس النواب، ارتفع صوتهم أمس. إنهم العسكريون المتقاعدون في لبنان، أولئك الذين خدموا البلاد في أحلك الظروف، ووقفوا على جبهات الحرب والسِّلم، ليجدوا أنفسهم اليوم في صراعٍ جديد: معيشةٌ كريمةٌ ضائعة، وحقوقٌ مستحقّةٌ معلّقة، ودولةٌ تزداد عجزاً عن احتوائهم.
فمنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان عام 2019، لم يعُد راتب التقاعد يكفي لشراء أبسط الحاجات اليومية؛ فعسكريٌّ تقاعد برتبة معاون أو ملازم، كان يتقاضى راتباً محترماً قبل الأزمة، بات اليوم يتقاضى بضعة دولارات، بعدما تآكلت قيمة الليرة اللبنانية بنسبةٍ تفوق الـ90%.
ورغم ذلك، لا تزال الدولة اللبنانية تتعامل مع هذا الملف بحذر، مبرِّرةً تأخرها في إقرار زيادات عادلة للعسكريين المتقاعدين بعجز الموازنة، وغياب الموارد، وانهيار المالية العامة. لكن الواقع أنّ هذه الفئة من المواطنين تجد نفسها مُهمَلةً في الحسابات السياسية، على الرغم من كونها شريحة خدمية أساسية، دفعت من عمرها وأمنها ثمناً لبقاء المؤسسات.
منذ عدة أشهر، كثّف المتقاعدون تحرّكاتهم، من إقفال مداخل مجلس النواب، إلى الاعتصام أمام وزارة المالية وقصر العدل، مروراً بالمشاركة في تظاهرات عامة، هتفوا، رفعوا لافتات، وواجهوا عناصر من رفاق الأمس، ما زالوا في الخدمة. المفارقة المؤلمة أن المحتجَّ والمكلَّفَ بضبط الاحتجاج، كلاهما في خندق الأزمة ذاته.
المتقاعدون يطالبون اليوم بما يعتبرونه “حقّاً لا مَنّة”، وهو تصحيح معاشاتهم التقاعدية وربطها بمؤشر غلاء المعيشة، كما تنص عليه القوانين والدساتير، كما يرفضون أن يكونوا ضحايا الحلول المالية المجتزأة التي تعتمدها الدولة، حيث تُرفَع رواتب العاملين في القطاع العام دون أن تشمل المتقاعدين بشكلٍ عادل.
في المقابل، تردّ الحكومة على مطالبهم بإشاراتٍ مزدوجة؛ فبينما تعترف بعدالة القضية، تشير إلى أن الوضع المالي لا يحتمل زيادات كبيرة في كتلة الرواتب، وتحاول وزارة المالية، من حينٍ لآخر، تمرير زياداتٍ مقطوعة أو مساعداتٍ مؤقتة، لا تلبث أن تتآكل في ظلّ التضخم وارتفاع الأسعار.
غير أنّ المشكلة تتجاوز الجانب المالي، لتصل إلى غياب الإرادة السياسية الجدية لوضع خطةٍ شاملة لإصلاح رواتب القطاع العام ومعاشات التقاعد، بشكلٍ عادلٍ ومستدام. وهذا التلكّؤ في معالجة الملف يُشعر المتقاعدين بأنهم صاروا “عبئاً” بعد الخدمة، لا جزءاً من كيان الدولة.
ومعاناة المتقاعدين لا تقف عند حدود الرواتب، فالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يعاني، ومؤسسة الطبابة العسكرية تواجه تحدياتٍ تمويلية، ما ينعكس مباشرةً على قدرة العسكري المتقاعد على الحصول على علاجٍ أو دواء.
وفي ظلّ تراجع الدولة عن دعم معظم الخدمات الأساسية، يجد الكثير من المتقاعدين أنفسهم عاجزين عن تعليم أبنائهم أو تأمين استشفائهم، ما يُعمِّق من شعورهم بالإهمال والتهميش.
هل من بصيص أمل؟
رغم قتامة المشهد، لا يزال المتقاعدون يعوّلون على تفعيل دورهم النقابي والسياسي. وقد بدأت بعض التنسيقيات العسكرية المتقاعدة تلعب دوراً بارزاً في الضغط على الحكومة، سواء من خلال الإعلام أو عبر بوابة الشارع.
في المقابل، يُراهن البعض على أن أيّ خطة تعافٍ اقتصادي قادمة، لا يمكن أن تتجاهل إصلاح القطاع العام، بما في ذلك إعادة هيكلة الرواتب والتقاعد، وهو ما قد يفتح نافذة أمل، ولو ضيّقة، أمام هذه الفئة التي تكاد تصبح منسيّة.