افتتاحية اليوم: “الحصار الناعم”

حط في بيروت وفد من وزارة الخزانة الأمريكية برئاسة سيباستيان غوركا وعضوية وكيل وزارة الخزانة لشؤون الارهاب جون هيرلي ورودولف عطالله المتخصص بمكافحة الارهاب في مجلس الأمن القومي الأميركي وآخرين في زيارة اعتبرت تتويجاً لمسار ضغط متصاعد يستهدف بنية التمويل المالي لحزب الله.
وبرغم الطابع التقني للزيارة، فإن خلفياتها السياسية بدت واضحة، إذ تسعى واشنطن إلى إعادة تشكيل النظام المالي اللبناني بما يحدّ من قدرة الحزب على الحركة ضمن الاقتصاد المحلي، ويكرّس تبعية لبنان للمعايير الدولية التي تضعها الخزانة الأميركية.
وتأتي هذه الخطوة في لحظة دقيقة من عمر الأزمة اللبنانية، ما يجعل لبنان هشّاً أمام أي ضغط خارجي. الأميركيون يدركون أن البيئة المالية هي خاصرة الحزب الرخوة، فيعملون على اختراقها عبر ما يسمى أدوات “الإصلاح المالي” و”مكافحة غسل الأموال”، فيما الهدف الحقيقي يتمثّل في تجفيف منابع التمويل التي تغذّي قدرته العسكرية والسياسية.
الوفد الأميركي عقد لقاءات موسّعة مع كبار المسؤولين اللبنانيين والمصرفيين، مركّزاً على ضرورة تطبيق القوانين الدولية بصرامة، ومتابعة التحويلات المشبوهة، وفرض رقابة أدق على شبكات الصرافة والتحويل النقدي. أما الجانب اللبناني، فحاول الحفاظ على التوازن الدقيق بين الالتزام بالمعايير الدولية وعدم الانزلاق نحو استهداف مباشر لفئة لبنانية بعينها، إدراكاً لحساسية الموقف السياسي الداخلي.
وتسعى واشنطن بهذا التحرك إلى ما يمكن تسميته “الحصار الناعم”، وهو أسلوب يعتمد الأدوات الاقتصادية بدل المواجهة العسكرية. فبدلاً من العقوبات الفردية فقط، يجري الآن الضغط على النظام المالي برمّته كي يصبح أداة ضبط داخلية، تُقصي حزب الله تدريجياً عن الدورة الاقتصادية الرسمية. في المقابل، يسعى الحزب وفق المعلومات إلى بناء منظومة مالية بديلة تقوم على التعامل النقدي وشبكات الدعم الإقليمية، بما يضمن استمرار تدفق موارده بعيداً عن أعين الخزانة الأميركية.
وبذلك يقف لبنان اليوم بين مطرقة العقوبات وسندان الانهيار. الاستجابة الكاملة للشروط الأميركية قد تفتح الباب أمام الدعم الدولي، لكنها تهدّد بتفجير توازناته الداخلية. أما تجاهلها، فيعني مزيداً من العزلة المالية والاقتصادية. وهكذا يجد لبنان نفسه مرة جديدة عالقاً بين ضرورات الإنقاذ وضغوط الخارج، فيما يتقدّم المال هذه المرة كأقوى سلاح في معركة النفوذ على أرضه.




