أبرزشؤون لبنانية

افتتاحية اليوم: ابتعدوا عن الفتنة

يعيش لبنان هذه الأيام مرحلة من أشدّ المراحل خطورة، حيث تتهدّده المخاطر من كلّ حدبٍ وصوب، وفي ظلّ مخاضٍ عسير تعيشه المنطقة وسط متغيّرات قد تقلب الأمور رأسًا على عقب، يبرز الحاج ة إلى الحكمة والروية، بهدف إبعاد البلد عن منزلقات الفتنة التي تتربّص بكل شارعٍ وحيٍّ ومفصلٍ سياسي. فالبلد الذي تتهدّده الحرب وتثقله الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يجد نفسه اليوم مهدّدًا بخطابٍ سياسي متشنّج يزداد حدّة، وبمظاهر استعراضية في الشوارع تتخذ شكل مسيرات للدراجات النارية، غالبًا ما تحمل رسائل تتجاوز شكلها الاحتفالي المعلن إلى رمزية سياسية أو طائفية تُقلق الرأي العام.

لم تكن مسيرات الدراجات النارية ظاهرة جديدة على الحياة اللبنانية، لكنها في الآونة الأخيرة اكتسبت دلالات مختلفة. فظهورها في مناطق حسّاسة أو مختلطة، وفي سياقات توتّر سياسي، يفتح الباب أمام تأويلات واسعة، ويعيد إلى الأذهان مشاهد تُذكّر بفصول من الماضي لم يندمل جرحه بعد. وما يزيد من خطورة هذه الظاهرة هو تزامنها مع خطاب سياسي يتّسم بتبادل الاتهامات والتصعيد، بدل البحث عن قواسم مشتركة تساعد على عبور المرحلة بأقلّ الخسائر.

لا شكّ أنّ التشنّج الكلامي على المنابر وفي وسائل الإعلام يشكّل مادة قابلة للاشتعال في بلدٍ هشٍّ مثل لبنان. فكلّ كلمة غير محسوبة قد تتحوّل إلى شرارة، وكلّ تصريح متوتّر قد يجد صداه في الشارع لدى مَن يملكون الاستعداد النفسي للتحرّك بدافع العصبية أو الاستنفار. وهنا تكمن المعضلة. إنّ الخطاب المتوتّر لا يبقى محصورًا بين السياسيين، بل ينفذ سريعًا إلى المزاج الشعبي، ويخلق حالة احتقان قد تتجلّى في استعراضات الشوارع أو في احتكاكات عابرة تتحوّل فجأة إلى أحداث مقلقة.

ولأنّ الفتنة تبدأ من التفاصيل الصغيرة قبل أن تتضخّم، لا بدّ من التحذير من الانجرار إلى لعبة الاستفزاز والاستفزاز المضاد. فلبنان ليس في وضع يسمح له بتجربة أيّ هزّة أمنية، مهما كانت محدودة. فاقتصاده منهك، والدولة عاجزة، والمؤسسات مترهّلة، والشعب مرهق يبحث عن بصيص أمل؛ كلّ ذلك يجعل الفتنة خطرًا وجوديًا لا خلافِيًّا فحسب.

إنّ المرحلة تتطلّب مسؤولية مضاعفة من الجميع: من القوى السياسية التي يُفترض بها تهدئة خطابها بدل زيادة توتّر الجمهور، ومن القيادات الأمنية التي يقع على عاتقها ضبط الشارع ووقف أيّ مظهر قادر على إشعال التوتّر، ومن المواطنين أنفسهم الذين عليهم إدراك أنّ أيّ انزلاق سيُدفَع ثمنه من استقرارهم وأمانهم اليومي، وليس من حسابات السياسيين.

فلبنان لا يحتاج اليوم إلى استعراض قوة في الشوارع، بل إلى استعراض الحكمة، ولا يحتاج إلى صخب الدراجات النارية، بل إلى هدوء يعيد الثقة. ولا يتحمّل المزيد من الخطابات المتشنّجة، بل يحتاج إلى لغة تُطفئ النار بدل إيقادها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى