اغتنام الزخم الدولي لحلّ الدولتين

كتب د. ألون بن مئير في صحيفة العرب.
في ظلّ المواجهات العنيفة الطويلة والمتصاعدة يكمن الأمن القومي الإسرائيلي النهائي في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
حفّزت الأحداث المروّعة في غزة زخمًا دوليًا قويًا يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية. في 29 يوليو أصدرت فرنسا والمملكة العربية السعودية، بدعم من جامعة الدول العربية و16 رئيسًا مشاركًا آخر، إعلان نيويورك بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حلّ الدولتين، والذي جاء فيه “في سياق إنهاء الحرب في غزة، يجب على حماس إنهاء حكمها في غزة وتسليم سلاحها إلى السلطة الفلسطينية بمشاركة ودعم دوليين، بما يتماشى مع هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.”
ورغم الصعوبات الجمة التي تعترض التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، فقد أكدتُ دائمًا أنه لن يكون هناك بديل واقعي آخر. لقد أكد هجوم حماس والحرب الإسرائيلية الانتقامية ذلك بوضوح. ويمثل هذا فرصة تاريخية يجب على الفلسطينيين وإسرائيل والولايات المتحدة عدم تفويتها. إنهم يواجهون خيارين: إما احتضان هذا الزخم نحو السلام والأمن والنمو والازدهار معًا، أو السماح لفرصة عظيمة أخرى بالانزلاق إلى ظلال العنف والشلل السياسي لعقود قادمة.
حماس على مفترق طرق
رسالتي إلى حماس: لقد ارتكبتم وحشية غير مسبوقة وتسببتم في دمار لا يوصف للفلسطينيين في غزة. عليكم الآن الاختيار. الخيار الأول هو استمرار مقاومتكم العبثية والعنيفة والتي قد تواجهون من خلالها الإبادة الكاملة كقوة مقاتلة متمسكين بالمثل الوهمية كحركة لتحرير فلسطين، ولكن دائمًا في حالة فرار. هذا يصبّ في مصلحة بنيامين نتنياهو، ويحرم الفلسطينيين من تحقيق حلمهم بالعيش في سلام وأمن.
أو يمكنكم الاستفادة من الزخم الدولي لدعم الدولة الفلسطينية، والتي يمكنكم، وهذا من المفارقات، أن تزعموا أنكم أعدتموها إلى الواجهة. يجب عليكم الاستجابة لنداء العالم العربي أجمع ونزع سلاحكم وتسليم ترساناتكم للسلطة الفلسطينية، ونبذ العنف كوسيلة سياسية، ومواجهة الحقيقة الحتمية بأن أيام حكمكم لغزة قد ولّت.
تذكروا، هذا ليس استسلامًا؛ بل هو دور محوري في إنهاء معاناة الفلسطينيين وعدم ترك تضحياتهم المروّعة على مدى الأشهر الـ22 الماضية تذهب سدىً. وإلا، فإن القتال حتى النهاية المريرة سيمنح نتنياهو فرصة كارثية لتطهير غزة عرقيًا وإعادة توطين اليهود الإسرائيليين فيها. ستخسرون فرصة تاريخية أشعلتموها من جديد لتحقيق تطلعات الفلسطينيين وحاجتهم إلى دولة فلسطينية مستقلة.
إلى السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أقول هذا: يجب عليكم الآن أن تستيقظوا على الديناميكية بعيدة المدى والمتغيّرة لصراعكم مع إسرائيل. لديكم فرصة لاستعادة السلطة في غزة؛ لا تبدّدوها. وبغض النظر عن قمع الاحتلال الإسرائيلي، عليكم إعادة تنظيم أنفسكم سياسيًا ودعوة جميع الفصائل السياسية التي تنبذ العنف ضد إسرائيل (بما في ذلك حماس، إن اختارت ذلك) إلى المشاركة في العملية السياسية والتخطيط لانتخابات جديدة.
من الناحية المثالية ينبغي تشكيل حكومة ائتلافية تمثل جميع الأحزاب السياسية وتتفق على شرط أساسي واحد: الدخول في مفاوضات سلام غير مشروطة مع إسرائيل. صحيح أن هذه مهمة شاقة بالنسبة إلى نظام فاسد، ولكن من ناحية أخرى إذا فشلت السلطة الفلسطينية في الارتقاء إلى مستوى هذه المناسبة التاريخية، فلن يؤدي ذلك إلا إلى إضفاء الشرعية على الادعاء الإسرائيلي بعدم وجود شريك فلسطيني للتفاوض معه.
هذه رسالتي إلى جميع الإسرائيليين: إذا كان هجوم حماس الوحشي الذي لا يُسبر غوره وهجومكم العسكري غير المسبوق على غزة بعد 77 عامًا من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قد أظهرا شيئًا، فهو أنكم ستظلون دائمًا “عالقين” مع الفلسطينيين. لا شيء يمكنكم فعله، لا الآن ولا في أي وقت، للتخلص من سبعة ملايين فلسطيني (ما يعادل عدد اليهود الإسرائيليين). إنهم يعيشون داخل مجتمعاتكم ويحيطون بها. ما يقرب من ثمانية عقود من الإرهاب والغزوات العنيفة والحروب، وصولًا إلى انحدار جديد لا يُصدق خلال الأشهر الاثنين والعشرين الماضية، يُثبت أن هناك حلًا واحدًا دائمًا، وهو السلام القائم على حلّ الدولتين.
سبعة وخمسون عامًا من احتلال الضفة الغربية وثمانية عشر عامًا من حصار غزة، برهنت بوضوح تام على أن الظروف الحالية غير مستدامة. إن الضمّ التدريجي للضفة الغربية وإعادة توطين غزة كابوسٌ أمني وكارثي أخلاقيًا ويعزل إسرائيل دوليًا ويُحوّلها إلى دولة منبوذة. أما الخيار الثالث، وهو دولة ديمقراطية واحدة، فلن تقبلوه أبدًا، نظرًا للمعادلة الديموغرافية واحتمال فقدان إسرائيل لسيطرتها وزوالها عن كونها دولة يهودية.
أجل، لا بد من تقديم تنازلات متبادلة -بشأن المستوطنات الإسرائيلية واللاجئين الفلسطينيين والأمن والقدس وترسيم الحدود (السياسية) النهائية. هناك حلٌّ قائم على محادثات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية السابقة، ويمكن تعديله لتلبية العديد من متطلبات إسرائيل الرئيسية. لا تُصدّقوا الحجة الزائفة القائلة بأن الدولة الفلسطينية تُمثل خطرًا وجوديًا على إسرائيل. العكس هو الصحيح.
يجب أن تضعوا في اعتباركم أن أي تنازل يُقدم على جميع الجبهات سيُصبح باهتًا مقارنةً بإراقة الدماء والدمار المستمر الذي سيعاني منه الطرفان بلا هوادة لعقود قادمة. حلّ الدولتين ليس هبة للفلسطينيين؛ بل هو أفضل مصالح إسرائيل الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية على المديين القريب والبعيد.
الدور الأميركي لا غنى عنه
من الصعب المبالغة في الدور الذي لا غنى عنه والذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة لإيجاد حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. دعمت جميع الإدارات الأميركية حلّ الدولتين، بما في ذلك إدارة دونالد ترامب التي أطلقت في شهر يناير 2020 خطة سلام اقترحت حلّ الدولتين مع التركيز على أمن إسرائيل وتقرير مصير الفلسطينيين. لقد تغيّر موقفه بسبب تزايد النفوذ الإنجيلي في إدارته الذي يعارض الفكرة. على سبيل المثال، يُظهر تعيينه لمايك هاكابي، وهو من أشد منتقدي حل الدولتين، سفيرًا لدى إسرائيل النفوذ الإنجيلي القوي على سياسته الحالية.
على ترامب، الذي يدّعي اهتمامه الكبير بالأمن القومي الإسرائيلي، أن يعلم أيضًا أنه في ظلّ المواجهات العنيفة الطويلة والمتصاعدة بين الجانبين يكمن الأمن القومي الإسرائيلي النهائي في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لقد أكدت حرب غزة استحالة استمرار الصراع، وأن دعم حكومة نتنياهو المسيانية التي تهدف إلى إعادة بناء إسرائيل الكبرى بتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة هو وصفة لاستمرار المعارك الكارثية. سيؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط بشكل متزايد، ما يحرم إسرائيل من تحقيق السلام مع العديد من الدول العربية ويهدد اتفاقيات السلام الحالية مع ستّ دول عربية.
ونظرًا لشعبية ترامب الاستثنائية في إسرائيل فهو، على عكس أي من أسلافه، في وضع فريد يُمكّنه من صياغة صفقة القرن. هذا لا يعني أنه سيكون من السهل التوصل إلى اتفاق سلام لمجرد رغبته في ذلك. فالقضايا المتضاربة العديدة، إلى جانب انعدام الثقة التام بين الجانبين، تعني أن التفاوض على اتفاق سيستغرق وقتًا طويلاً. وبمجرد التوصل إلى اتفاق مبدئي، سيستغرق الأمر عملية مصالحة تمتد لعدة سنوات لتخفيف حدة انعدام الثقة المتجذر بينهما.
ترامب يعمل لمصلحة ترامب. فبالنسبة إلى من يطمع بشدة في جائزة نوبل للسلام، فإن إنهاء أطول صراع منذ الحرب العالمية الثانية سيضمن له تقريبًا الحصول عليها. ولكن الأهم من ذلك كله، أنه سينهي عقودًا من الصراع والتضحيات والمعاناة، وسيُبشر بسلام إقليمي ونهضة يعجز عن تصوّرها.
هل هذا خيالي إلى درجة يصعب تصوّرها؟ ربما. ولكن، أروني ما البديل الذي يمكن أن يتفق عليه الطرفان لإنهاء الصراع نهائيًا، باستثناء حلّ الدولتين.




