رأي

اصطياد الشمس.. كيف يمكن لتخزين الطاقة النظيفة أن ينقذ كوكبنا؟

جاء في مقال للكاتب اندي موخرجي في “بلومبرغ” :

أخطأ أتباع الحركة اللاضية عندما حطموا آلات المصانع في القرن التاسع عشر ظناً منهم أن التقدم التقني سيكون له عواقب سيئة على الوظائف. يتكرر الخطأ نفسه الآن مع مؤيدي نظرية “إبطاء عجلة النمو” حديثة العهد، حيث ينشرون هذه النظرية بوصفها الحل الأمثل للتصدي لظاهرة الاحتباس الحراري التي تهدد 80% من سكان العالم بالعيش في ظروف لا تستطيع دول العالم المتقدم أن تتحملها أبداً.

طرح عالم الرياضيات الروماني نيكولاس جورجيسكو-روغين في سبعينيات القرن الماضي قاعدة ديناميكية حرارية تُطبق عندما تستنفد البشرية إمداداتها من الوقود الأحفوري، وقال فيها إن النشاط الاقتصادي سيتباطأ حتماً إلى مستوى يمكن دعمه من خلال التدفقات الشمسية.

لكن العائق الأساسي أمام هذه النظرية هو أن الدول النامية في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، التي ترغب في رفع معدلات الناتج المحلي الإجمالي على غرار نظيرتها الغربية، ولديها طاقة شمسية هائلة بسبب استمرار ضوء الشمس في معظمها نحو 12 ساعة يومياً، ستواجه عقبة حتمية تتمثل في تأثر أراضيها ومستوى الوظائف فيها إلى جانب تهديد مليارات السكان الذين يعيشون بها بالكوارث الفظيعة المرتبطة بتغير المناخ، مثل موجات الحرارة والجفاف والفيضانات المفاجئة وغرق السواحل وابيضاض الشعاب المرجانية.

التركيز على “الناتج المحلي الإيجابي”

بعد الحرب العالمية الثانية انتشر هوس عالمي بمراقبة مؤشر الناتج المحلي الإجمالي بشكل عام، لكن منذ فترة قريبة ظهرت حركة مجتمعية طوباوية (حالمة) تدعو إلى تحقيق ما يسمى بـ”الناتج المحلي الإيجابي” فقط -وهو الناتج الذي يمكن الوصول له دون التسبب في آثار سلبية مثل الحروب والكوارث البيئية.

يحظى هذا المفهوم الجديد بدعم في أوروبا العجوز، التي يزيد عمر نصف سكانها عن 44 عاماً، لكن الدول النامية غير مقتنعة بهذا المفهوم، وترى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي فيها لا يمثل مشكلة، وذلك في الوقت الذي تقترب فيه تلك الدول من التحول إلى مركز للإنتاج والاستهلاك العالمي. فعلى سبيل المثال، يزداد معدل الشيخوخة في الصين ونموها الاقتصادي يتباطأ، إلا أنها لا تزال دولة ذات دخل متوسط أعلى، رغم أنها ليست دولة غنية. أما سكان الهند فأعمارهم أصغر بكثير ودخولهم أفقر.

وكلتا الدولتين العملاقتين الناشئتين تركزان على زيادة الناتج المحلي الإجمالي بشكل عام، ولديهما مبررات أكثر عمقاً وليس مجرد منظور أيديولوجي في هذا الصدد. فمن وجهة نظرهما، يمكن للتكنولوجيا الآن أن تُمكّن الناس في كل مكان من التطلع إلى حياة تزداد ازدهاراً كل عام دون تدمير الكوكب.

تجربة رائدة في توليد وتخزين الكهرباء

لفهم أسباب دفاع المتفائلين عن هذا المفهوم، ذهبتُ لرؤية تجربة علمية بقيمة 3.5 مليار دولار في كورنول، وهي منطقة جبلية نائية في ولاية أندرا براديش جنوب الهند. ويُطلق على هذه المنطقة وصف “غابة”، رغم أن معظمها مجرد أرض صخرية قاحلة.

يجري العمل على قدم وساق في هذه التجربة لتوليد الكهرباء من التوربينات الثمانية الموجودة هناك بحلول العام المقبل، حيث تدور التوربينات وتُولّد تياراً عندما تتدفق المياه عليها من خزان اصطناعي، وتُضخ هذه المياه التي توضع في البداية في وعاء سفلي إلى أعلى البحيرة بواسطة الطاقة المولدة من طاقتي الشمس والرياح. وبذلك تتحول الموارد الطبيعة إلى طاقة محتملة قبل إطلاقها على شكل كهرباء من الطاقة الحركية.

الاسم التقني لهذه العملية هو “توليد الطاقة الكهرومائية القابلة للتخزين بالضخ”، فيما تطلق عليها أوروبا اسم “البطاريات المائية”. ومن المتوقع حصول شبكة الكهرباء في كورنول على طاقة ثابتة على مدار الساعة من محطة الطاقة الشمسية الموجودة في المنطقة المجاورة للمشروع تبلغ قدرتها 816 ميغاواط. يشبه الأمر تماماً كما لو كانت تعتمد على محطة تعمل بالفحم أو الغاز، لكن دون التسبب في أي تلوث. كما سيعزز تخزين المياه من كفاءة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية إلى 80% بزيادة قدرها أربعة أضعاف.

تقنيات بيئية متطورة

يدير المشروع كلاً من أنيل تشالامالاسيتي وماهيش كولي، ومن المتوقع أن يحول نحو 4000 ميغاواط من طاقتي الشمس والرياح المتقطعتين إلى كهرباء موثوقة قابلة للاستخدام في أوقات مجدولة مسبقاً. ويعد تشالامالاسيتي وكولي رائدا أعمال في مجال التكنولوجيا، حيث التقيا في لندن أواخر التسعينيات، وأرادا العودة من هناك إلى الهند وهما مسلحين بالتقنيات البيئية الأوروبية.

أجرى الاثنان جلسات عصف ذهني في حانة “ذا بيبر بوت” بالقرب من منطقة تاور بريدج الإنجليزية، وخرجا منها وهما متحمسان لتبني المبادئ التي ظهرت بعد إطلاق بروتوكول كيوتو لائتمانات الكربون.

بعدها أسسا مجموعة “غرينكو” (Greenko)، وأدرجاها في سوق لندن للأوراق المالية للشركات الصغيرة والمتوسطة (AIM)، حيث أطلقت المجموعة بعض المشروعات ذات رأس المال المغامر في مجالات الكتلة الحيوية والطاقة المائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية. (ملاحظة: اشترى تشالامالاسيتي حانة “ذا بيير بوت” بعدما أدرك أن فواتيرهما وحدها كافية لسداد قرض عقاري).

شُطبت المجموعة من سوق لندن للأوراق المالية للشركات الصغيرة والمتوسطة في 2017، وبدأت في جمع التمويل من صناديق الثروة السيادية في سنغافورة وأبو ظبي، كما أنشأت في مدينة كرنول ما تم اعتباره في ذلك الوقت أكبر مزرعة شمسية في العالم ذات موقع واحد، حيث امتدت على مساحة 24 كيلومتراً مربعاً (9 أميال مربعة)، أو ما يعادل 3500 ملعب كرة قدم تقريباً.

توفير الطاقة النظيفة للتصنيع

لكن بعد ذلك، تخلى المؤسسان عن المشروع، وقررا أن إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية ليس إنجازاً كبيراً. فما يحتاجه العالم حقاً هو دمج ذرات مختلفة لتوليد كميات هائلة من الطاقة النظيفة وتخزينها لاستخدامها لاحقاً. وتحدث كولي معي عن هذا الأمر قائلاً: “لم نرغب في إنتاج الكهرباء النظيفة وحسب، وإنما التركيز على ازالة الكربون أيضاً من خلال تخزينها واستخدامها في تحديث طرق التصنيع بالقطاعات الأخرى”.

يعني هذا تقديم خدمة الطاقة النظيفة المُخزنة لصناعة مواد ثقيلة وملوثة مثل الفولاذ والألمنيوم والبلاستيك. ويحب تشالامالاسيتي، الذي تخرج من كلية علوم الحاسب الآلي، استخدام استعارات من المفاهيم الشائعة في صناعة البرمجيات عند التحدث، ويقول: “الأمر يشبه صناعة أكبر منصة سحابية لتخزين الطاقة في العالم”.

فمثلما يصل البريد الإلكتروني المخزن على السحابة الرقمية إلى هواتفنا عندما نحتاج إليه، سيتمكن أصحاب المصانع من الوصول إلى الطاقة المتجددة في أي وقت من النهار أو الليل بطلب بسيط، وهذه الخدمة أصبحت بالفعل قيد التنفيذ. واعتباراً من يونيو 2024، يخطط المشروع الهندي المشترك بين شركتي “أرسيلور ميتال” (ArcelorMittal) و”نيبون ستيل” (Nippon Steel) لخفض 1.5 مليون طن من انبعاثات الكربون سنوياً عن طريق الحصول على ما يصل إلى 20% من احتياجات الكهرباء الخاصة بمصنع الشركة في ولاية غوجارات من المنشأة التي زرتها في ولاية أندرا براديش.

أما شركة “هندالكو إندستريز” (Hindalco Industries) المتخصصة في تصنيع الألمنيوم فتعتزم تشغيل مصاهر تعمل بالطاقة الخضراء على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ما يقلل 680 ألف طن أخرى من الانبعاثات كل عام.

تقليل البصمة الكربونية

في الهند وفي كل مكان آخر تقريباً تعد شركات المرافق أبرز مشتري طاقتي الشمس والرياح. لكن الكهرباء ليست سوى جزء واحد من بصمتنا الكربونية، فقد يوفر استخدام الموارد التي لا تنضب لإعادة تشغيل الصناعات الحيوية طريقاً مؤقتاً للهروب من القاعدة الديناميكية التي وضعها جورجيسكو روغين. غير أن العيب الوحيد هو أن الطاقة المتجددة ليست متاحة دائماً، ويتطلب تخزينها، لاستخدامها لاحقاً في أوقات غروب الشمس أو عندما لا تهب الرياح، توافر بطاريات ضخمة، والتي يجب أن تكون أرخص وأكثر أماناً وأطول عمراً من بطاريات الليثيوم أيون المستخدمة في السيارات الكهربائية. وهنا يأتي دور فيزياء التخزين بالضخ المدعومة بكيمياء الأمونيا.

في كل عام يستخدم المزارعون جزءاً كبيراً من 175 مليون طن من الأمونيا (NH3)، التي يجري إنتاجها بتكلفة كبيرة على البيئة بسبب الكميات الهائلة من ثاني أكسيد الكربون المنبعثة في العملية الصناعية الأساسية المعروفة باسم “هابر – بوش”، لكن رغم احتياج الزراعة إلى الأمونيا من أجل النيتروجين، وهو سماد أساسي للمحاصيل، فإن “غرينكو” تركز على الأمونيا لأنها تحمل ثلاث ذرات هيدروجين منتجة بشكل نظيف، فبوصفه يعمل كمادة وسيطة ووقود، يمكن الهيدروجين أن يتحول إلى نواة رئيسية للثورة الصناعية المقبلة.

عادة ما يأتي معظم الهيدروجين من الهيدروكربونات. كما يشكل الهيدروجين الرمادي والبني – المنتجان من الغاز والفحم بنحو 94 مليون طن سنوياً- حجر الأساس لإنتاج الأسمدة والبلاستيك والمنسوجات وغيرها الكثير من المنتجات، لكن رغم أنه يدخل في طعامنا وملابسنا، إلا أنه ملوث للغاية في الوقت ذاته. وهناك أيضاً الهيدروجين الاخضر المشتق من الغاز الطبيعي مع امتصاص ثاني أكسيد الكربون المتبقي فيه، وهو ما تقدمه دول مثل السعودية باعتباره بديلاً أنظف، إلا أن النجاح الحقيقي يكمن في إزالة الكربون كلياً.

الهيدروجين الأخضر أفضل خيار

ما نحتاج إليه فعلاً هو الهيدروجين الأخضر، المستخرج من الماء وليس الهيدروكربونات. كما ستُستخرج الطاقة اللازمة لتقسيم جزيء الماء بشكل مفتوح من الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، والتي تصل إلى المحلل الكهربائي عبر البطاريات المائية.

في هذه العملية يُستخرج الهيدروجين من الماء، مع تصنيعه من النيتروجين باستخدام عملية (هابر – بوش) الكهربائية، بدلاً من الميثان، بحيث نحصل على أمونيا خالية من الكربون، والذي يمكن نقله بسهولة وأمان أكثر من شحن الهيدروجين كغاز أو سائل.

بعد ذلك، تُستخدم الأمونيا الخضراء لصنع الأسمدة أو تفتيتها في جهاز تكسير حتى تتحول إلى هيدروجين بمساعدة محفز ومزيد من الطاقة المتجددة، واستخدامها في خلية وقود، ويتبقى الماء فقط بعد هذه العملية دونما أي ملوثات.

هذا النوع من الهيدروجين الأخضر قد يغير منظومة التجارة العالمية بشكل فعال، مع زيادة الخيارات المتاحة لمصدري الطاقة.

تعد إثيوبيا من أكثر الدول ذات الإمكانات المستقبلية لإنتاج الطاقة الكهروضوئية، وكذلك باكستان والصومال، فبيع الطاقة الشمسية حالياً لن يترك أمة فقيرة في حالة أسوأ مستقبلاً، كما لن تنطبق المخاوف الاجتماعية والاقتصادية المعتادة بشأن استخراج الموارد على هذه الدول.

تحديات كبيرة أمام السيارات الكهربائية

هذا الأمر لا ينطبق على ثورة السيارات الكهربائية، لأن الحفاظ على أسعار تلك المركبات الكهربائية في مستويات مقبولة للمستهلكين يعني التعدين أكثر عن الليثيوم والكوبالت والنيكل، وهو أمر ثبت بالفعل أنه مفعم بالتحديات، إذ تخطط الحكومة التشيلية للمطالبة بحصة مسيطرة في جميع مشاريع الليثيوم المستقبلية، كما أثار تعدين الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية مخاوف بشأن استعباد العمال مجدداً في العصر الحديث. لكن بالمقارنة، فإن التحول إلى الهيدروجين الأخضر لإنقاذ الكوكب من غير المرجح أن يسبب مشكلات جديدة.

أيضاً، سيتطلب استبدال الإنتاج العالمي الحالي بأكمله من الهيدروجين التقليدي والتحول إلى نظيره الأخضر ما يقرب من 0.09% من عمليات سحب المياه العذبة، وفقاً لـ”بلومبرغ إن إي أف”، وهو ما يشكل تقدماً مقارنة بالوضع الراهن.

يمكن أن تأتي الطاقة المتجددة اللازمة للتحليل الكهربائي للهيدروجين على مدار الساعة من وحدات التخزين التي تعمل بالضخ، حيث يتم تبديل المياه بين خزانين مخصصين لا يعتمدان على الأنهار في عمليات إعادة الملء. وهذه الطريقة أصبحت أرخص وأسرع في الاعتماد عليها مما كانت عليه منذ نصف قرن مضى، عندما بدأت أوروبا والولايات المتحدة في استغلال فرق الارتفاع بين بحيرتين طبيعيتين لتوليد الكهرباء.

كان الهدف الأصلي هو مساعدة محطات الطاقة النووية – التي لم تكن قادرة على زيادة نشاطها أو خفضها- على التعامل مع انخفاض الطلب ليلاً. وتعد البطاريات المائية الأحدث طرازاً أكبر حجماً وأكثر طموحاً، إذ يمكن أن تستمر في العمل لمدة نصف قرن دون أن تنبعث منها أبخرة ضارة.

أما بالنسبة لنقل الهيدروجين الأخضر حول العالم، فيمكن وضع الأمونيا، التي ستلعب هنا دور “بطارية النقل”، على السفن التي تعمل هي نفسها بواسطة الأمونيا الخالية من الكربون. وكل هذا حقيقة واقعة وليس خيال علمي، وقد تصبح أولى هذه السفن متاحة للاستخدام في غضون عام أو اثنين.

تمويل الاقتصاد الأخضر

وفقاً لـ”بلومبرغ إن إي أف” يجتذب الاقتصاد الجديد المرتكز على الهيدروجين تمويلاً جيداً. وقد يتضاعف الطلب السنوي على الهيدروجين خمس مرات إلى 500 مليون طن بحلول 2050. وتحتاج خطط توليد الطاقة هذه إلى دفعة هائلة. ولتوفير هذه الدفعة، خصصت الولايات المتحدة نحو 9.5 مليار دولار في شكل منح، وأعلنت عن إعفاءات ضريبية على الإنتاج بموجب قانون خفض التضخم فيما ستنفق ألمانيا 21 مليار دولار بحلول 2026. كما يدرس ميناء روتردام مدى جدوى التكسير الهيدروليكي للأمونيا، وتسعى كوريا الجنوبية إلى بناء محطة لاستيراد الأمونيا الخضراء.

يمكن للهيدروجين الأخضر أيضاً أن يقلل من الدور الجيوسياسي الضخم الذي يلعبه النفط والغاز، إذ سيكون هناك صراع بشري أقل على الهيدروكربونات المحدودة. وانتهاء الحروب التي تؤثر على الناتج المحلي الإجمالي العام سيفسح المجال لتحقيق دخل قومي أفضل جودة، مما يقلص جانب سلبي واحد على الأقل من جوانب الحياة الحديثة التي ينتقدها دعاة إبطاء النمو.

مع ذلك، ومن أجل تحقيق ثورة حقيقية، يجب أن يتعاون الجميع في دفع عجلة الاقتصاد، حيث تستهلك الهند وحدها 7 ملايين طن من الهيدروجين الرمادي سنوياً، أي أكثر من كل أوروبا مجتمعة. ولا يمكن للعملاء الصناعيين في البلدان الفقيرة دفع 6 دولارات للكيلوغرام من الهيدروجين الأخضر. كما لا يستطيع دافعو الضرائب في تلك الدول تحمل خفض هذا السعر بمقدار النصف عن طريق محاكاة الدعم الأميركي.

قد تؤدي هذه العوائق إلى عرقلة حلم تحديث طرق التصنيع عن طريق تخزين الطاقة النظيفة. لكن الخبر الجيد هنا هو أن الدول النامية تحاول التصدي لهذا التحدي. والحلم الكبير الآن هو بيع كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر مقابل دولار واحد في غضون عقد واحد، وهي رؤية يطلق عليها رجل الأعمال الهندي موكيش أمباني اسم “1-1-1”. لكن هدف “غرينكو” الأكثر واقعية هو تجنب الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال، الذي يعد المصدر الرئيسي للهيدروجين الرمادي.

ما هي أنظف مصادر الطاقة؟

يعتبر الغاز الطبيعي المسال، الذي أُطلق عليه سابقاً اسم “شمبانيا الوقود” –دلالة على نظافته ونقائه- أفضل للبيئة من الفحم، لكن سعره يمكن أن يتقلب بسهولة. وخلال العام الماضي طُلب من المستوردين الآسيويين، بما فيهم الهند وبنغلاديش إلى تايلاند والفلبين، دفع 30 دولاراً أو أكثر لكل مليون وحدة حرارية بريطانية من الغاز بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. وهذا يقابل 6 دولارات فقط للكيلوغرام الواحد من الهيدروجين الرمادي.

وتتوقع “غرينكو زيرو سي” (Greenko ZeroC)، وهي شركة تابعة لـ”غرينكو”، توفير كهرباء صديقة للبيئة على مدار الساعة يجري إنتاجها باستخدام الطاقة المتجددة، بسعر 3 دولارات دون دعم. وتثق الشركة التابعة في قدرتها على توفير المنتج المطلوب بالسعر المحدد بسبب التكلفة المنخفضة لمضخات التخزين المائية. أما بطاريات الليثيوم أيون، فهي غير مناسبة للتخزين طويل الأمد، وستكون أغلى ثلاث مرات أكثر من الأسعار الحالية.

قد توفر البطاريات المائية، المعتمدة على العلوم الفيزيائية والمندمجة مع كيمياء الأمونيا، أفضل فرصة لتحقيق المعادلة الصعبة بين كفاءة الإنتاج والتجارة والاستهلاك دون التضحية بخفض مستويات المعيشة، أو رفع درجة حرارة كوكب الأرض أكثر بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل التصنيع، وهو أمر يمكن أن يحول الظروف المعيشية بالنسبة لمعظم الناس إلى حياة بائسة وموحشة وقصيرة، إن لم تكن مستحيلة تماماً.

تتسم الهند بسمعة سيئة في هذا الصدد بسبب مساهمتها في هذا المستقبل البائس، حيث ترفض التوقف عن استخدام الفحم، لكن النقاد لا يرون الجانب الإيجابي الذي تقوم به البلاد بعيداً عن الأضواء، حيث أعلنت شركة “إن تي بي سي” (NTPC) المملوكة للدولة وأكبر منتج للطاقة في البلاد، مؤخراً عن عطاءات لتوفير 9000 ميغاواط/ ساعة من تخزين طاقتي الرياح والشمس على مدار الساعة. لكن على النقيض من ذلك، تعتزم أكبر منشأة أميركية تخزين 3000 ميغاواط / ساعة فقط بعد تحديث أعمالها. واندلعت النيران في إحدى حزم البطاريات الخاصة بها العام الماضي.

إن بوصلة قيادة معارك المناخ تتجه شرقاً، لكن بصورة تعاونية تختلف تماماً عن الطريقة التي حولت بها القوى الاستعمارية مركز الثقل الاقتصادي نحو الغرب في القرن التاسع عشر. وحالياً تتفاوض “غرينكو” مع شركة “يونيبار” (Uniper) على صفقة تحصل بموجبها وحدة “زيرو سي” التابعة للشركة الهندية على عقد توريد قدره 250 ألف طن من الأمونيا الخضراء سنوياً للمرافق الألمانية.

كما تريد شركة “بوسكو هولدينغز” الكورية تكسير الأمونيا وتحويلها إلى هيدروجين لإمداد مصانع الصلب بالطاقة. فيما تسعى سنغافورة إلى بناء بطاريات الأمونيا لخدمة قطاع الشحن البحري. وتعقد “زيرو سي” محادثات مع شركة “كيبيل إنفراستركتشر هولدينغز” (Keppel Infrastructure Holdings) لاستكشاف إمكانات بناء مصنع معاً. إضافة إلى إنشاء “زيرو سي” مصنع عملاق لتصنيع أجهزة التحليل الكهربائي التي من شأنها تقسيم جزيئات الماء إلى هيدروجين وأكسجين، بالتعاون مع شريكتها “جون كوكيرل” (John Cockerill) ومقرها بلجيكا.

يقع المقر الرئيسي لـ”غرينكو” في حيدر أباد، على بعد ثلاث ساعات بالسيارة من كورنول. وتعد المدينة المزدهرة التي يبلغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة أبرز دليل على نوع النمو الذي تتوق إليه معظم المدن في الهند. ويمتلك الصندوق السيادي لسنغافورة (GIC) حصة أغلبية في “غرينكو”، كما تتمتع الشركة باستثمار قدره مليار دولار من شركة “أوريكس” (Orix) اليابانية.

ويسمح الوصول إلى رأس المال العالمي للمؤسسين المشاركين تشالامالاسيتي وكولي بالعمل على إنشاء شركة صينية مشابهة، حيث تسارع بكين إلى تلبية هدفها المتمثل في توفير 200 مرفق من مرافق ضخ الطاقة الكهرومائية بسعة مجمعة تبلغ 270 غيغاواط بحلول 2025. ويوفر تخزين الطاقة لمدة تسع ساعات – على سبيل المثال- نحو 2430 غيغاواط/ ساعة من الكهرباء تقريباً، أي أكثر بـ24 مرة مما تبنيه وتطوره “غرينكو” عبر سبعة مواقع مختلفة حالياً.

يدل ما يحدث حالياً على شيئين: الأول، أن الصين تتخذ خطوات استباقية بشكل صحيح. فبينما تسعى فيه أوروبا إلى وضع سعر عادل على البصمة الكربونية للواردات، ستكون الدولة منتجة البضائع الأقل تكلفة في العالم مستعدة لمواجهة هذا التحدي. ثانياً، أن الهند بحاجة إلى اللحاق بالركب، فما يقرب من 45% من القوى العاملة فيها عالقون في قطاع الزراعة منخفض الأجور، كما ارتفع هذا العدد بصورة أكبر بسبب الوباء. ودون التوسع الحضري السريع؛ سيضطر عشرات الملايين من الهنود إلى العمل كمزارعين فائضين دون حاجة حقيقية لهم في هذا القطاع. والسؤال الأهم الآن هو ما إذا كانت الطاقة التي سيستهلكونها بشراهة وهم يسعون لتوفير حياة أفضل ستكون موثوقة مثل الفحم، أو أرخص سعراً مثل الغاز المستورد، أم صديقة للبيئة.

ووعدت الهند بخفض 45% من كثافة استهلاك الكربون في اقتصادها بحلول 2030 مقارنة بمستويات 2005 في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في غلاسكو لعام 2021. ولن تستطيع الدولة الوفاء بهذا التعهد عن طريق استبدال الكهرباء المولدة من الفحم بمزيد من طاقتي الشمس والرياح فقط، حيث باعت الهند في المزاد ما معدله 15 غيغاواط من الطاقة المتجددة سنوياً في السنوات المالية الخمس الماضية. وفي السنوات الأربع المقبلة، تريد الحكومة مضاعفة هذا الرقم ثلاث مرات. ومجرد إغراق المرافق بطاقة أنظف خلال ساعات مختلفة عن أوقات الذروة لن يكفي لجعل نمو الدولة خالياً من الكربون. وقد ينتهي الحال بخامس أكبر اقتصاد في العالم وهو يعاني من هدر الكهرباء وانهيار الشبكات.

إن تخزين ضوء الشمس بتكلفة زهيدة في أوقات عدم الحاجة إليه واستخدامه في سلسلة التوريد الصناعية المعاد تصميمها قد يكون المسار الوحيد المستدام. وإذا تمكن 1.4 مليار شخص من تحقيق انتقال مسؤول، وأصبحوا ضمن طبقة الدخل المتوسط المرتفع؛ فإن الدول الغنية والفقيرة على حد سواء ستركز بصورة أكبر على الاستفادة من مثلث الطاقة الشمسية والبطاريات المائية والهيدروجين الأخضر، حيث يمكن نقل الطاقة التي ينتجها لمسافات كبيرة على صورة أمونيا. وسيؤدي ذلك أيضاً إلى قطع شوط طويل في تقليل الآثار السلبية المصاحبة للنمو.

ختاماً، يمكن القول إن جورجيسكو روغين، الذي توفي في 1994، كان ليرفض إصرار الدول على التوسع، معللاً وجهة نظره بأن الأمر “لا يتوقف على النمو فقط” حسب نظريته، حيث يمكن أن “تستمر الحالة المتدهورة لبعض الأمم إلى ما لا نهاية”. ويركز تشاؤمه على فكرة أن “مصير الإنسان قد يكون الحصول على حياة قصيرة ولكنها حماسية ومثيرة في بيئة ملوثة، بدلاً من عمر طويل وخالٍ من الأحداث في بيئة نظيفة”، وكتب في 1975: “ربما علينا ترك الأرض للكائنات الأخرى التي لا تمتلك طموحات جوهرية مثل الأميبا حتى تنمو، وأن نفعل ذلك بينما لا تزال أشعة الشمس تغطي هذا الكوكب”. لكن على الجانب الآخر، قد يكون إثبات خطأ نظرية روغين هو أكبر شاغل للبشرية في القرن الحالي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى