استقرار الساحل بين الشراكات القديمة وواقع القطيعة

كتب حاتم البطيوي, في صحيفة الجزيرة:
أزمة الجزائر ومالي ليست معزولة، بل هي مرآة لتحولات أعمق تعيشها إفريقيا.
في منطقة الساحل، حيث لا تقتصر الرمال المتحركة على الجغرافيا بل تمتد إلى السياسة، تمر العلاقة بين الجزائر ومالي بمنعطف حاد، يكشف عن أزمة ثقة تفوق مجرد صراع المصالح. فعلى الرغم من التاريخ المشترك والحدود الطويلة والوساطات السابقة، تقف الجزائر ومالي اليوم على ضفّتين متقابلتين من نهر التوتر.
بداية التوتر الأخير جاءت بعد إعلان الجزائر أن طائرة مسيّرة اخترقت أجواءها آتية من مالي، ما أدى إلى تصعيد ديبلوماسي واسع استدعت على إثره الجزائر سفراءها من باماكو وواغادوغو ونيامي، وردّت مالي بإغلاق مجالها الجوي وطرد السفير الجزائري.
وعلى الرغم من أن الحادثة قد تبدو نزاعاً حدودياً بسيطاً، إلا أنها تعكس تحولاً عميقاً في العلاقات، حيث تتهم مالي الجزائر بدعم التمرد في الشمال وتطالب بتدخل دولي لحماية سيادتها.
ما بين اتهامات الجزائر واحتجاجات باماكو، يبدو أن عنصراً أساسياً قد انكسر. ربما الثقة، وربما الرغبة في إبقاء الخلافات داخل الإطار الإقليمي.
إن الجزائر التي رعت اتفاق السلام في عام 2015 وسعت لتقريب وجهات النظر بين باماكو وحركات الطوارق، تجد نفسها اليوم خارج اللعبة، بعدما ألغت مالي الاتفاق من جانب واحد، معتبرةً أنه لم يعد يعكس معطيات الواقع الجديد .
تتمثل المعطيات الجديدة في “تحالف الساحل الثلاثي” الذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي دول وحّدتها الانقلابات العسكرية والانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس”، وإعلان قيام كونفيدرالية أمنية وسياسية تتبنى خطاب السيادة وترفض أي وصاية إقليمية. وقد انسحبت هذه الدول تباعاً من مجموعة دول الساحل الخمس، التي كانت الجزائر تدعمها بالتنسيق مع فرنسا، ما شكّل ضربة لمساعي الجزائر في ترسيخ دورها الإقليمي.
لا يخفي هذا التحالف تذمّره من الجزائر، بل يسعى إلى إعادة ترتيب النفوذ في المنطقة بعيداً عن دورها المركزي، وهو ما يفسر لهجة التصعيد الآتية من عواصم التحالف الثلاث.
ومن منظور الجزائر، لا يعدّ هذا انحرافاً مالياً وحسب، بل إعادة رسم لخريطة الساحل من دون مشاورتها، وهو أمر غير مقبول لدولة تعتبر نفسها الضامن لاستقرار المنطقة الجنوبية. فالمخاطر الأمنية حقيقية، والحدود الطويلة مع مالي لطالما كانت نقطة ضعف، وقد يفتح تدهور العلاقات الباب أمام الفوضى والتهريب، وربما الأسوأ أي عودة الجماعات المتطرفة لاستغلال النزاعات الجديدة.
ورغم كل هذا التوتر، لا يرى البعض أن الأزمة تمثل نهاية الطريق. فالعلاقات الدولية لا تُقاس بلحظة غضب أو ببيان ديبلوماسي، بل بمجموع المصالح المتبادلة.
تدرك الجزائر ومالي أنهما باقيتان في الجوار، وأن الحوار سيعود، ولو من بوابة خلفية، لأن البديل أكثر كلفة للجميع. لكن من المؤكد أن العلاقة لن تعود إلى ما كانت عليه. فمكانة الجزائر تلقت صفعة، ومالي لم تعد تخفي رغبتها في إدارة أوراقها دون العودة إلى “الجار الكبير” في الشمال.
إن أزمة الجزائر ومالي ليست معزولة، بل هي مرآة لتحولات أعمق تعيشها إفريقيا تكمن في عودة الجيوش إلى الحكم، وتراجع نفوذ القوى الاستعمارية التقليدية، وسباق دولي محموم على النفوذ بين موسكو وبكين وغيرهما.
وسط كل ذلك، تغيب الحلول السهلة، ويبقى المواطن العادي — سواء في تمبكتو أو تمنراست — هو الخاسر الأكبر حين تختلط الجغرافيا بالدخان، وتُتخذ القرارات عبر الطائرات المسيّرة بدل الطاولات المستديرة.
يبقى الدرس الأهم هنا هو أن استقرار الساحل لا يمكن أن يُبنى على أنقاض الشراكات القديمة، ولا أن يُدار بمنطق القطيعة. وربما آن الأوان لكل من الجزائر ومالي أن تفكرا في مقاربات جديدة، واقعية، ومتواضعة، تنطلق من أن النفوذ لا يُفرض بالقوة أو بالشعارات، بل يُكتسب بالثقة والاحترام المتبادل. وإذا لم يكن بوسعنا محو التاريخ، فلا أقل من أن نتعلم منه.