رأي

استرضاء شكلي للأوروبيين: واشنطن تجمّل خطة استسلام كييف

كتب سعيد محمد, في الأخبار:

يزعم الأميركيون أن خطّة «ويتكوف – ديميترييف» للتسوية في أوكرانيا، حُدِّثت في جنيف أخذاً في الاعتبار ملاحظات الحلفاء الأوروبيين. لكن التعديلات تبدو شكلية وبعيدة من أن تمسّ جوهر التوافق الأميركي – الروسي.

بعد أقلّ من 24 ساعة على توبيخه القيادة الأوكرانية لعدم إظهارها «أيّ امتنان» لجهود الولايات المتحدة في تحقيق تسوية للحرب مع روسيا، عاد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، صباح أمس، ليغرّد عبر منصّته «تروث سوشال» بنبرة مغايرة تماماً: «شيء جيّد قد يحدث». وجاء هذا التحوّل بعد ليلة طويلة في جنيف، اجتمع خلالها «مهندسو الصفقات» الأميركيون مع نظرائهم الأوكرانيين، وبحضور أوروبي ثقيل، وخرجوا بما سمّوه «إطار سلام مُحدّثاً ومنقّحاً». وإذا كانت العبارة دبلوماسية بامتياز، لكنها، بحسب مطّلعين على مضمون المداولات، أقرب إلى تجميل لـ»خطّة الاستسلام» (خطّة الـ28 نقطة التي صاغها المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، مع نظيره الروسي كيريل ديميترييف) ببعض «الرتوش» اللغوية لتصبح قابلة للبلع، من دون تغيير جوهرها الذي يقتضي الاعتراف بالسيادة الروسية على أجزاء من الأراضي الأوكرانية في شرق البلاد، وفق منطق «الأرض مقابل السلام».

ووصف البيان المشترك الصادر عن الولايات المتحدة وأوكرانيا، المحادثات بأنها «بنّاءة ومُحترمة»، مؤكّداً أن الطرفَين قاما بصياغة «إطار عمل مُحدّث»، في حين بدا وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، متفائلاً، إذ أكّد أن «تقدُّماً هائلاً» قد تحقَّق. بدورهم، احتفل الأوروبيون (بقيادة ثلاثي تحالف الراغبين: بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، بانتصار صغير، فيما سارع وزير الخارجية الألماني، يوهان فادفول، إلى إعلان المحادثات «نجاحاً حاسماً لأوروبا»، مدّعياً أنه تمّت إزالة القضايا التي تمسّ «الناتو» وأوروبا من الصيغة الأميركية الأُحادية.
لكنّ هذا «النجاح» الألماني يبدو أقرب إلى محاولة لحفظ ماء الوجه، إذ إن الواقع يقول، إن أوروبا قبلت بالانخراط في مناقشة خطّة كانت ترفضها، علماً أن مجرّد الجلوس لتعديل بنود «قائمة الأمنيات الروسية» – وفق ما وصفتها به جهات أميركية وأوروبية – هو اعتراف ضمني بمشروعيّتها. ويُمثّل ما تقدَّم نجاحاً في تحسين شروط الهزيمة، وليس طريقاً نحو فرض تسوية تعادل، فضلاً عن أنه لا يغيّر من مرارة الكأس التي سيُفرض على نظام كييف تجرُّعها: التنازل نهائيّاً عن أيّ مطالبات بأراضي إقليمَي القرم ودونباس التي تسيطر عليها القوات الروسية، وانسحاب القوات الأوكرانية من الأجزاء التي لا تزال تسيطر عليها في إقليم دونيتسك، أي مدن «الحزام المحصّن» الأسطوري الذي يضمّ: سلوفيانسك، وكراماتورسك، ودرويكيفكا، وكوستيانتينيفكا، التي شكّلت لسنوات سدّاً منيعاً تحطّمت عليه الهجمات الروسية المتتالية. وستتحوّل هذه المدن إلى «منطقة عازلة محايدة ومنزوعة السلاح»، ما يعني أن الطريق إلى وسط أوكرانيا، وتحديداً مدينتي دنيبرو وزابوروجيا الاستراتيجيتَين، سيصبح مفتوحاً ومكشوفاً تماماً أمام أيّ هجوم روسي مستقبلي.

على أن مواقف ثلاثي لندن – باريس – برلين من خطّة «ويتكوف – ديميترييف»، لم تنسحب على ما يبدو على بقية الأفرقاء الأوروبيين؛ إذ أعلنت السويد، على لسان وزيرة خارجيتها ماريا مالمير شتينرغارد، أنها «لن تعترف بأيّ ضمّ روسي لأراضٍ أوكرانية». في المقابل، اتّهم وزير الخارجية الهنغاري، بيتر سيجارتو، القادة الأوروبيين بمحاولة عرقلة الخطّة الأميركية، واصفاً هذه الأخيرة بـ»الفرصة الكبرى» لإنهاء الصراع المستمرّ منذ ما يقرب من أربع سنوات، معتبراً أن «على كل سياسي أوروبي واجب دعم هذه الخطّة بالكامل، وبشكل غير مشروط، بوصفها الخيار العقلاني والإنساني».

سارع وزير الخارجية الألماني، يوهان فادفول، إلى إعلان المحادثات «نجاحاً حاسماً لأوروبا»

وفي محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف، أعلن الاتحاد الأوروبي عقد اجتماع لـ»تحالف الراغبين» اليوم، بهدف مُعلن هو مناقشة «قرض التعويضات» الذي تطمح بروكسل إلى منحه لنظام كييف من خلال السطو على عوائد الأصول المالية الروسية المودعة لدى مؤسسات مالية أوروبيّة (البالغة 300 مليار دولار أميركي)، والذي سيكون بمثابة محاولة لتوحيد الصفوف قبل أن يتوجّه وفد من القادة الأوروبيين إلى واشنطن في الأيام القليلة المقبلة. وكان الاتحاد يخطّط، بقيادة المستشار الألماني فريدريش ميرتس، لاستخدام عوائد الأصول الروسية المُجمّدة لتمويل قرض لأوكرانيا بقيمة 160 مليار دولار. لكنّ واشنطن، وفق خطة «ويتكوف – ديميترييف»، تريد الاستيلاء على 100 مليار دولار من تلك الأصول المُجمّدة ليس لمنحها لأوكرانيا، بل لضخّها في «صندوق استثماري أميركي – أوكراني»، تذهب 50% من أرباحه إلى الولايات المتحدة، على أن يوجّه الجزء المتبقّي لإنشاء «مشروع استثماري أميركي – روسي مشترك»، بينما يُطلب إلى أوروبا أن تضخّ 100 مليار أخرى من جيوب دافعي الضرائب لديها لتمويل إعادة الإعمار.

أمّا الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، فقال خلال كلمة له عبر رابط فيديو خلال قمّة «منصّة القرم» في السويد، إن «كييف ستواصل العمل مع شركائها على التوصّل إلى تسويات في شأن المقترحات التي قدّمتها الولايات المتحدة لتقوية أوكرانيا، وليس إضعافها»، مشدّداً على «ضرورة أن تدفع روسيا ثمن الحرب في أوكرانيا، وأمر مصادرة أصولها المُجمّدة لدى الأوروبيين أمر حاسم لإنجاح أيّ مقترحات سلام». ودعم رئيس البرلمان الأوكراني، روسلان ستيفانتشوك، موقف رئيس البلاد، قائلاً إن خطط أوكرانيا لعضوية الاتحاد الأوروبي و»الناتو» يجب أن تشكّل جزءاً من ضماناتها الأمنية، وأيّ خطّة سلام يجب أن تلحظ لاءات أوكرانيا الثلاث: لا اعتراف رسمياً بالأراضي الأوكرانية المحتلّة، ولا سقوف لقدراتها الدفاعية، ولا قيود على تحالفاتها المستقبلية.

على الضفة الأخرى، يمارس الكرملين لعبة الصمت الاستراتيجي؛ إذ نفى الناطق باسمه، ديمتري بيسكوف، تلقّي أيّ معلومات رسمية حول محادثات جنيف، مؤكداً أنه لا توجد خطط للقاء وفود أميركية هذا الأسبوع. وأضاف: «بالطبع، نحن نراقب عن كثب التقارير الإعلامية التي انتشرت بكثرة خلال الأيام القليلة الماضية، بما في ذلك من جنيف. لكن رسمياً، لم نتلقَّ أيّ شيء بعد». وقرأ الخبراء هذا البرود الروسي وكأنه يعكس ثقة مفرطة بالنفس لدى طرف يعمل الوقت والميدان لمصلحته؛ إذ وبينما كان الدبلوماسيون في جنيف يتناقشون حول خطوط التماس، استمرّت المدفعية الروسية في توسيع تلك الخطوط بالدم والنار. وأظهرت الصور الجوية للجبهة قتالاً ضارياً يجري قرب مدينة بوكروفسك الاستراتيجية في دونيتسك، التي أعلنت وزارة الدفاع الروسية السيطرة على حيَّين جديدَين فيها، بالإضافة إلى قرية زاتيشيا في زابوروجيا، فيما كانت المُسيّرات تستهدف المباني السكنية في مدينة خاركيف، مُخلِّفةً 4 قتلى و13 جريحاً، قالت السلطات المحليّة إن من بينهم أطفالاً. وسيعني سقوط بوكروفسك، التي تُعتبر عقدة مواصلات حيوية، ضربة قاصمة لخطوط الإمداد الأوكرانية، ما يجعل أيّ «خريطة سلام» رُسمت في جنيف، متجاوزة للأحداث حتى قبل أن يجفّ حبرها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى