رأي

 احذروا من نظام ترامب العالمي القائم على المصالح الشخصية

كتب كريستيان كاريل, في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية:

إنّ عقلية الرئيس القائمة على مبدأ “ادفع لتلعب” تقوض السياسة الخارجية الأميركية.

في أيار/مايو، أُلقي القبض على رجل يُدعى إسماعيل تيرليمز في بلجيكا، نتيجة تحقيق في قضايا فساد أجراه عملاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وجهاز التحقيقات التابع لوزارة الدفاع الأميركية. وزعمت لائحة الاتهام أنّ تيرليمز، الذي كان يعمل في مكتب مشتريات حلف الناتو في بروكسل، قد تلقّى رشاوى من شريك له في عامي 2019 و2020، ضمن مخطط للتلاعب بعطاءات عقود الناتو. وكان المحققون على يقين تام من إدانة تيرليمز، وهو مواطن تركي.

لكن في تموز/يوليو، أعلنت وزارة العدل الأميركية إسقاط جميع التهم الموجّهة ضد تيرليمز، الذي كان قد ترك الناتو ليؤسّس شركة دفاع تركية ذات نفوذ، وأُطلق سراحه. لا نملك أي دليل مباشر على أن القرار كان ذا دوافع سياسية، لكن توقيته أثار الشكوك لدى المراقبين، إذ جاء تحرّك وزارة العدل بعد أسبوعين فقط من لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان، خلال قمة الناتو في لاهاي.

ليس من الصعب تخيّل أن يقرّر ترامب أن يُسدي معروفاً لصديقه إردوغان. صحيح أن واشنطن وأنقرة شهدتا خلافات في السنوات الأخيرة، شملت أحياناً قضايا تجارية شائكة، لكن الزعيمين في الواقع يشتركان في الكثير من القواسم المشتركة. فكلاهما يميل إلى دمج الأعمال بالسياسة، وغالباً ما يُقحم أفراداً من عائلتيهما في هذا المجال. لدى ترامب صهره جاريد كوشنر؛ أما صهر إردوغان، بيرات البيرق، فهو، مثل كوشنر، مثال حيّ على تضارب المصالح، إذ سبق له أن شغل منصباً حكومياً لفترة من الزمن. يريد ترامب بناء قاعة احتفالات جديدة للبيت الأبيض بتبرعات من مؤيّديه السياسيين، بينما بنى إردوغان لنفسه قصراً رئاسياً فخماً أثار جدلاً واسعاً بسبب تمويله.

على غرار ترامب، يُلاحق إردوغان خصومه بالدعاوى القضائية، واتهامات الخيانة، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي الشعبوية. قال ترامب لمُحاوِر في موقع “بوليتيكو” مؤخراً، من دون أن يُحدِّد من المقصود بـ”هم”: “كلما واجهوا مشكلة مع إردوغان، يطلبون مني الاتصال به لأنهم لا يستطيعون التحدث إليه. إنه رجل عنيد. في الحقيقة، أنا معجب به كثيراً. أعتقد، كما تعلمون، أنه بنى دولة قوية وجيشاً قوياً”. دعك من حقوق الإنسان. من ذا الذي سيرفض تقديم خدمة لرجل كهذا؟

لقد رأينا حتى الآن العديد من الحالات التي سارعت فيها إدارة ترامب إلى تلبية طلبات حلفائها في الخارج، بما في ذلك، بشكل لافت، العفو عن الرئيس السابق لهندوراس، الذي أُدين بتهريب 400 طن من الكوكايين إلى الولايات المتحدة، في وقت تُشن فيه واشنطن حرب غير مُعلنة ضد تجار مخدرات فنزويليين مزعومين. ومن اللافت للنظر أن العديد من قرارات العفو وإسقاط التهم الموجَّهة إلى أميركيين، بمن فيهم عمدة نيويورك المنتهية ولايته إريك آدامز، والنائب الديمقراطي عن ولاية تكساس هنري كويلار، تضمنت أيضاً تعاملات مع سماسرة نفوذ أجانب. (وقد وُجِّهت إلى كويلار وزوجته العام الماضي تهم بتلقي رشاوى من منظمات وأفراد مرتبطين بحكومة أذربيجان، بينما اتُّهم آدامز بتلقي هدايا غير مشروعة من مسؤولين أتراك).

إن تسامح ترامب مع ممارسات المحسوبية العابرة للحدود له جذور عائلية؛ فاثنان من أبنائه منخرطان بنشاط في مشاريع تجارية، تتراوح بين العقارات والعملات المشفّرة، وترتبط ارتباطاً مباشراً بالمملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان وقطر والإمارات العربية المتحدة. ومن المعروف أن صندوق كوشنر الاستثماري، “أفينيتي بارتنرز”، قد تلقّى ملياري دولار من السعوديين، الذين يمولون الآن محاولته لمساعدة شركة “باراماونت” في الاستحواذ العدائي على شركة “وارنر براذرز ديسكفري”.

تبدو الأعراف التي لطالما حدّدت كيفية تعامل الرؤساء مع مصالحهم التجارية أثناء تولّيهم المنصب قديمة الطراز عند النظر إليها اليوم؛ فقد حطّمها ترامب تماماً. وتعهدت مؤسسة ترامب، التي تشرف على استثمارات العائلة، في كانون الثاني/يناير بالامتناع عن التعامل مع الحكومات الأجنبية، لكنها في الواقع تجاهلت أي قيود على التعاون مع الكيانات الخاصة في الخارج. وتشير تقديرات مجلة “فوربس” إلى أنّ ترامب قد ربح نحو 3 مليارات دولار منذ عودته إلى منصبه. (لست متأكداً مما إذا كان هذا المبلغ يشمل طائرة بوينغ 747 التي أهداها القطريون لترامب). ويمكن إرجاع جزء كبير من هذه الأرباح إلى علاقاته الوثيقة مع دول الخليج.

الأمر لا يقتصر على المال فحسب؛ فمن الواضح أن ترامب يجد توافقاً خاصاً مع ممالك الخليج، ربما لأنهم، مثله، لا يكترثون بتلك الفروقات الدقيقة بين الأصول العامة والخاصة. فالأمر كله يبقى ضمن العائلة. بإمكان شخصيات نافذة، مثل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، التصرف كما يشاؤون في ممتلكات الدولة من دون أن يُحاسبهم أحد. ومن المعروف أن ولي العهد تجاوز لجنة إدارة صندوق الثروة السيادية لمملكته للموافقة على استثماره الضخم في صندوق كوشنر، ربما لأنه أدرك أن ذلك سيمنحه نفوذاً مميزاً لدى الإدارة الأميركية المستقبلية.

اتضح أن الرهان كان صائباً؛ فقد جلبت زيارة ولي العهد إلى واشنطن في منتصف نوفمبر وعوداً سخية باستثمارات في الاقتصاد الأميركي، تصل قيمتها إلى ما يقارب تريليون دولار، وفقاً لتقديرات المسؤولين أنفسهم. وفي المقابل، حصل السعوديون على وعد بتزويدهم بمقاتلات “إف-35” المرغوبة، من دون أي إشارة تُذكر إلى سجلهم المروّع في مجال حقوق الإنسان.

وهكذا تبرر الإدارة علاقتها الوثيقة مع شركائها التجاريين في الخارج: فكل ما يفعله الرئيس يصبّ في المصلحة العامة، كما يقول المسؤولون.

قبل بضعة أشهر، استشاطت كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، غضباً عندما سألها الصحفيون عن تضارب المصالح الواضح للإدارة في تعاملاتها مع دول الخليج. وقالت: “أعتقد أنه من السخف، بصراحة، أن يُلمّح أي شخص في هذه الغرفة إلى أن الرئيس ترامب يفعل أي شيء لمصلحته الشخصية. لقد ترك حياة الترف وإدارة إمبراطورية عقارية ناجحة للغاية من أجل الخدمة العامة، ليس مرة واحدة بل مرتين”. وادّعت أنّ ترامب “خسر أموالاً بالفعل بسبب رئاسته”. إن كان ذلك صحيحاً في أي وقت مضى، فهو بالتأكيد ليس كذلك الآن.

وتضع استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها الإدارة مؤخراً الشواغل الاقتصادية في صدارة أولوياتها، مع إغفال شبه تام للديمقراطية أو حقوق الإنسان. وخلافاً لادعاءات الإدارة بشأن الإهمال السابق، لطالما كان مساعدة الشركات الأميركية على الوصول إلى أسواق جديدة هدفاً أساسياً للسياسة الخارجية الأميركية، كما هو الحال بالنسبة لمعظم الدول.

السؤال هو: بأي وسيلة؟ لقد خالفت هذه الإدارة عقوداً من الممارسات الراسخة في قضايا الفساد، وذلك من خلال تعليق تطبيق قانون ممارسات الفساد الأجنبية، على سبيل المثال، وهو القانون الذي وُضع لمنع الشركات الأميركية من التورط في الرشوة خلال تعاملاتها التجارية في الخارج. وكان مبرر هذه السياسات واضحاً: فالفساد ينطوي على مخاطر جسيمة؛ إذ يُقوّض المساءلة، ويُعزّز عدم الكفاءة، ويُحمّل دافعي الضرائب تكاليف باهظة (على سبيل المثال، عندما يُفضّل مسؤولو المشتريات العروض الأعلى ثمناً مقابل الرشاوى). كما أنه يُشجّع أشكالاً أخرى من الإجرام (كتلك التي روّج لها الرئيس الهندوراسي السابق)، ويقوّض الشفافية والمحاسبة النزيهة (انظر قضية “إنرون”).

لكن ثمة مخاطر خاصة عندما يُطبَّق مبدأ “ادفع لتلعب” على السياسة الخارجية؛ فمع أن أصدقاءك قد يختارون التواطؤ، فإن أعداءك الماكرين قد يستغلون جشعك ضدك.

ونرى هذه الديناميكية تتجلّى في تعاملات الإدارة الغافلة تماماً مع الكرملين. فقد غيّرت موسكو بذكاء نهجها، فجعلت كيريل ديميترييف، المصرفي الاستثماري الحاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة هارفارد، حلقة الوصل الرئيسية بينها وبين ستيف ويتكوف، قطب العقارات السابق الذي كان بمثابة رجل ترامب المكلّف بملف الحرب الروسية–الأوكرانية. ويُقدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المدرَّب على التلاعب من قِبل المخابرات السوفيتية، درساً مُتقناً في فن الإغواء الدبلوماسي، مستغلاً فكرة المبعوث الرومانسية القائلة إنّ دافع الربح يتجاوز كل شيء. ومؤخراً، انضمّ كوشنر إلى ويتكوف (الذي يستغل أبناؤه أيضاً منصبه الجديد) على طاولة المفاوضات، وهو مؤمن بالقدر نفسه بالفكرة المثالية القائلة إن الحوافز الاقتصادية قادرة على حل أي سوء فهم دولي.

أحياناً يُساوي المعلّقون بين ترامب وبوتين، لكن في الواقع لا يمكن أن يكون الديكتاتور الروسي أكثر اختلافاً. فبالنسبة لبوتين، تأتي القضايا الاقتصادية في المرتبة الثانية بعد أولوياته الجيوسياسية. لم يشنّ حرباً على أوكرانيا رغبةً في إثراء الأوليغارشية التابعة له، بل انطلاقاً من إيمان راسخ بأن مصيره هو إعادة بناء الإمبراطورية الروسية. إنه رجل في مهمة خلاصية، اتخذ قراراً واعياً بغزو جاره الجنوبي الغربي، وحتى الآن لم يُقنعه أحد بضرورة التوقف. لكنه أتقن قراءة ترامب وويتكوف، ويعلم أنهما متحمسان لفرصة جني الأموال من موارد روسيا الطبيعية الهائلة. لذا، وكما وثّق تقريرٌ لافت نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” مؤخراً، فهذا بالضبط ما كان يُلوّح به.

ربما يُدرك ترامب وويتكوف وبقية رفاقهما خطأهم يوماً ما، لكن من المرجّح أن يستمروا في الانبهار بالمال. ولسوء الحظ، نحن الباقون من سنضطر في النهاية إلى دفع الفاتورة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى