احذروا فخ الماء البارد اثناء موجة القيظ.
ماذا أفضل من شراب بارد في مواجهة هذه الحرارة الخانقة؟ ربما يبدو ذلك بديهياً، لكنه يتضمن نقطة ضعف أساسية قد تجعله أقرب إلى الخطأ.
وبادئ ذي بدء، من البديهي الإصغاء بانتباه إلى الأصوات العلمية الطبية التي تعالت في أرجاء العالم داعية الجمهور إلى الإكثار من شرب السوائل، خصوصاً الماء، أثناء موجة القيظ التي تجتاح النصف الشمالي من الكرة الأرضية خلال الصيف الجاري. وثمة دمعة تتجمع في العين مع تذكر أن الوصول إلى كميات كافية من مياه الشرب النقية والصحية، بمعنى أن ما ينطبق عليه وصف الماء الذي لا لون له ولا رائحة ولا طعم، غير متوفر لعشرات ملايين البشر في الكرة الأرضية. في المنطقة العربية، هنالك ملايين ممن لا يستطيعون الحصول على كفايتهم الطبيعية من مياه الشفة النقية الصالحة للشرب، سواء لعدم توفرها أو اختلاطها بملوثات شتى أو غير ذلك.
لنعد إلى نقطة البداية. لنفكر في مسألة الماء البارد الذي يبدو لكثيرين أنه الأكثر منطقية للشرب أثناء اشتداد الحرارة. على عكس ما قد يتبادر بداهة إلى الذهن، قد لا تقدم السوائل الباردة الحل لمسألة فقدان الماء عبر التعرق المفرط والتبخر المباشر من سطح الجلد، ويحدث كلاهما في موجات الحرارة.
إذاً، لنفكر عكس البديهي والواضح. لنسأل العلم والطب عن التوازنات المرتبطة بفقدان السوائل وارتفاع حرارة الجسم في الصيف القائظ.
ليس الأمر لغزاً. وتأتي البداية مع تذكر أن الجسم فيه آليات متفاعلة مهمتها الحفاظ على التوازن والاستقرار في التركيبة الداخلية لجسم الإنسان الذي يشكل الماء ما يتراوح بين و70 في المئة منه. ويشمل عمل تلك الآليات السعي إلى الحفاظ على كمية المياه في أنسجة الجسم المختلفة، إضافة إلى ضبط الحرارة الداخلية ضمن الحدود الطبيعية، أي بين بين 36 و37.5 درجة.
في الرد على الظمأ
مع تأثر الجسم بارتفاع حرارة الجو، تصل إلى الدماغ إشارات من أنسجة مختلفة عن احترار يتراكم داخل الجسد، مما يهدد التوازن والاستقرار الداخلي. يستجيب الدماغ لذلك بأن يرسل أوامر متعددة هدفها استعادة التوازن والعمل على خفض حرارة الجسم عبر آليات تشمل التعرق الذي يعني خروج سوائل تحمل معها كمية من الحرارة، قد تخفض الاحترار الداخلي. ويترافق ذلك مع نقص في كمية المياه التي يجب أن تتوفر طبيعياً في دواخل الجسد، بسبب فقدان كميات منها عبر العرق وكذلك عبر التبخر المباشر من سطح الجلد. وبالتالي، تتجمع في الدماغ إشارات الظمأ التي تدل على الحاجة إلى تناول السوائل.
وإذا جرت الاستجابة للشعور بالظمأ عبر شرب ماء معتدل الحرارة، يحصل الجسم على ما يعوضه عما فقده من سوائل، وكذلك تفيد المياه الداخلة إلى الجسم في تخفيض ارتفاع حرارته، خصوصاً إذا كانت معتدلة السخونة فتكون قريبة من درجة الاحترار الداخلي للجسد.
هنا نصل إلى فخ السوائل المثلجة. حينما تدخل تلك البرودة المفاجئة إلى الجسم، يتحصل لدى الدماغ إشارات عن اختلال التوازن الداخلي للجسم بمعنى أن كفة ميزان البرودة باتت راجحة بقوة وبصورة مفاجئة. ويحاول الدماغ استعادة التوازن عبر تحريك آليات تسخين الجسم، فتزيد الخلايا والأنسجة إنتاج الحرارة مع تخفيض حاد لخروج السوائل من الجسم (انخفاض التعرق). وفي المقابل، تتراكم الحرارة الداخلية للجسم، ويتحرك الدماغ، فيرسل إشارات الظمأ إلى الجسم مجدداً، على رغم دخول كميات كبيرة من السوائل إليه. وبالتالي، مع الماء البارد، يصل الجسم إلى وضعية اضطراب في الآلية الطبيعية لخفض حرارته (التعرق) لأنه تلقى إشارة برودة مفاجئة، ويستمر الظمأ كأن لم يدخل ذلك الماء إليه.
بعبارة وجيزة، يمثل التعرق آلية طبيعية لخفض حرارة الجسم في مواجهة الحرارة لكنه يفقد الجسم سوائل (والملح أيضاً). ويعني ذلك أن الوضعية الأفضل تتمثل في الحصول على سوائل وأملاح تعوض عما يفقد مع الحرارة، لكن من دون الإخلال بالآليات الطبيعية في الحفاظ على الاستقرار والتوازن الداخليين للجسم.
وبالتالي، يكون الماء النظيف بالحرارة العادية الحل الأمثل لمشكلة فقدان السوائل وارتفاع الحرارة الداخلية للجسم أثناء القيظ.
ضربة شمس وشاي وشحوم جافة
لعله من المفيد تذكر ما ورد آنفاً حين التعامل مع من يصاب بضربة شمس، بمعنى التركيز على إعطائه الماء النظيف بالحرارة العادية وكذلك بعض السوائل المعتدلة السخونة كالشاي المتوسط التركيز، وتجنب تقديم السوائل الباردة والمثلجات له، إلى أن يخرج من حالة الجفاف وارتفاع الحرارة التي تصاحب ضربة الشمس.
إلى حد كبير، تجنبت الكلمات السابقة الدخول في مسألة الملح الذي يعتبر فقدانه من أبرز التأثيرات السلبية للتعرق. ولا يسهل الكلام عن الملح لأنه يؤدي دوراً محورياً في شبكة من التوازنات المتعلقة بالحفاظ على التركيبة الطبيعية الداخلية للجسم، بما في ذلك مستوى مواد كالبوتاسيوم. ويؤدي الملح دوراً أساسياً في الحفاظ على الكمية الطبيعية للماء في دواخل الجسم وأنسجته وخلاياه، إضافة إلى دوره في تنظيم ضغط الدم. وكذلك يدخل البول كعنصر أساسي في تنظيم مستوى الملح في الجسم.
وتوخياً للسرعة ولو على حساب الدقة، يصاحب الملح الماء في العرق، مما يعني أن الآلية الطبيعية في الرد على ارتفاع حرارة الجسم، تحمل خطورة فقدان الملح مع ما يحمله ذلك من تأثيرات متنوعة. ويحاول الدماغ الحفاظ على الملح الأساسي في توازن البنية الداخلية للجسد، عبر آليات أبرزها تخفيف إنتاج الكلي للبول، مما يجعل كميته قليلة بالتالي يرفع تركيز الأملاح فيه. وفي القيظ، يغدو البول غامق اللون وكثيفاً وقليل الكمية. من المفيد تذكر ذلك كنوع من مؤشر، بمعنى تناول المياه بكمية تكفي لعودة البول إلى اللون الخفيف الطبيعي.
ومع زيادة تركيز الملح في الجسم أثناء القيظ، بفعل انخفاض كمية الماء، يحصل ارتفاع في ضغط الدم. وتكراراً، يفيد تناول الماء النظيف في تخفيف ذلك التأثير السلبي.
استطراداً، ثمة خطورة من ارتفاع ضغط الدم في الجو الجار، مع تذكر أن انخفاض كمية السوائل في الجسم تعني أيضاً ارتفاع كثافة الدم، بالتالي زيادة الميل إلى تكون التخثرات والجلطات التي قد تسد الشرايين، خصوصاً الصغيرة منها، مما يعجل في حصول سكتات الدماغ والقلب.
ثمة همسة تحذير واجبة إلى من يعانون سمنة مفرطة. يعتبر الشحم عموماً نسيجاً يعاني الجفاف، مما يعني أن القيظ يفاقم من تلك الوضعية ويسرع وصول أصحاب السمنة المفرطة إلى وضعية الجفاف. مرة أخرى، من الأفضل زيادة شرب الماء النظيف المعتدل أو العادي الحرارة.
ولعله من المفيد تذكر أن المثلجات والبوظة والآيس كريم محملة بكميات هائلة من السعرات الحرارية. ألا يجدر التفكير في ذلك بالنسبة إلى من يعانون السمنة المفرطة؟