اتفاق طرابلس.. بين الرجمة وأنقرة

كتب الحبيب الأسود في صحيفة العرب.
للجانب التركي موقف واضح من مغامرات الدبيبة غير محسوبة العواقب وهو الذي يعرف خلفياتها ودوافعها من خلال تحليله النفسي والاجتماعي والسياسي لشخصية حليفه في طرابلس.
أثبت اتفاق طرابلس أن زيارة رئيس الاستخبارات التركية، إبراهيم قالن، إلى بنغازي أواخر آب – أغسطس الماضي كانت تصب في إطار المشاورات مع القيادة العامة للقوات المسلحة حول الأوضاع الأمنية في المنطقة الغربية والعاصمة، وخاصة مع اتساع دائرة التهديدات ونذر العودة إلى مربع الفوضى، كما أراد لها رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، أن تكون من أجل تحقيق هدفه الأبرز، وهو الاستمرار في الحكم والانفراد بالسلطة.
سعى المسؤول التركي البارز، من خلال لقائه الحامل للكثير من الأبعاد السياسية والإستراتيجية مع القائد العام للقوات المسلحة، المشير خليفة حفتر، ثم لقائه الموسّع مع نائب القائد العام، الفريق أول ركن صدام حفتر، إلى توضيح موقف أنقرة من مجريات الأحداث في غرب ليبيا، مع نزوع واضح للتبرؤ من أي خطوة متهورة قد يقدم عليها الدبيبة بإعلان الحرب على أحد أجهزة المجلس الرئاسي، وهو جهاز قوة الردع الخاصة لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الذي يحظى بقاعدة شعبية واسعة، ولديه تحالفات ميدانية كانت ستؤدي، في حالة اندلاع الحرب، إلى صراع دموي غير مسبوق في العاصمة طرابلس ومدن الساحل الغربي.
أدرك الأتراك جيدًا أن قيادة الجيش في الرجمة لن تقف مكتوفة الأيدي في حالة نشوب معركة طاحنة في طرابلس، وقد تبلّغوا بالقرار رسميًا من جهات عدة، ووصلتهم معلومات عن تحركات القوات المسلحة نحو مناطق التماس، وتبيّن لهم أن إفراغ مصراتة من الميليشيات المتجهة نحو طرابلس لتنفيذ خطة الدبيبة يعني تلقائيًا أن تكون ساحة سهلة الاقتحام والاختراق والسيطرة من قبل قوات الجيش البرية، المدعومة بقوات البحر والجو، وهو ما سيطيح بالمعادلة السابقة إلى الأبد، وسينهي حالة الانقسام، ويعيد توحيد المؤسسة العسكرية بالصورة التي تسترجع بها الدولة سيادتها الكاملة وغير القابلة للنقصان على منطقتها الغربية.
في 25 أيار – مايو الماضي انطلق المشير حفتر من عقيدته الوطنية والعسكرية، عندما تعهّد بأن القوات المسلحة الليبية “كانت وستظل رهن إشارة الشعب، وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة،” وعندما أكّد بوضوح تام أنها “ستكون لها الكلمة الفصل في اللحظة الحاسمة.” يعترف أعداؤه قبل أصدقائه بأنه لم يتعهد بأمر إلا وطبّقه على الأرض، وأوجد له السبيل الملائم ليحققه برؤيته وإرادته وتضحيات أبنائه من العسكريين. ولذلك انتشرت مقولة مفادها أن حرب طرابلس، في حال اندلاعها، ستفسح المجال بقوة للجيش الوطني ليحرر ما تبقى من مساحة بين أيدي الميليشيات، وسيكون انتصاره سريعًا وخاطفًا لاعتبارات عدة، منها أن تركيا لن تقف إلى جانب قوات الدبيبة هذه المرة، ولن تسمح له باستعمال أسلحتها، بما فيها الطيران المسيّر، كما أن القوات المناهضة للحكومة المنتهية ولايتها ستنضم إلى الجيش، الذي يمثل الغطاء السيادي لكل القوى المدافعة عن الأمن والاستقرار، والعاملة على تأميم مصالح الدولة والمجتمع.
كان للجانب التركي موقف واضح من مغامرات الدبيبة غير محسوبة العواقب، وهو الذي يعرف خلفياتها ودوافعها من خلال تحليله النفسي والاجتماعي والسياسي لشخصية حليفه في طرابلس. وكان على معرفة واطّلاع بخطط الغرف المظلمة التي يحيكها الدبيبة، ويهدف من ورائها بالأساس إلى إرضاء الإدارة الأميركية عبر تمكينها من العقود والصفقات، بل ومن مفاتيح ثروة ليبيا، فقط مقابل أن تسمح له بالبقاء في منصبه، وأن تساعده على إفشال خارطة الطريق الأممية التي عرضتها رئيسة البعثة، هانا تيتيه، على مجلس الأمن في الحادي والعشرين من أغسطس الماضي. قبل أيام، أرسل وفدًا إلى واشنطن لمناقشة آليات تنفيذ عرضه بتحقيق شراكة اقتصادية مع الجانب الأميركي بقيمة 70 مليار دولار، أغلبها يذهب إلى شركات قريبة من ترامب شخصيًا.
لا يقف الدبيبة عند الصفقات الاقتصادية، وإنما يجد نفسه مطالبًا بتنفيذ شروط أخرى للانفراد بالسلطة في طرابلس لسنوات قادمة، من بينها مثلًا التطبيع مع إسرائيل، واستقبال المهجّرين من غزة أو المطرودين من الولايات المتحدة، وتسليم بعض الشخصيات الوطنية، على غرار عبدالله السنوسي، إلى واشنطن، على غرار ما فعل مع أبوعجيلة المريمي، الضابط السابق في جهاز الأمن الخارجي. وكل ذلك يحتاج إلى قوات موالية تسيطر على العاصمة، بدل القوات غير المضمونة، والتي أكدت في مناسبات عدة رفضها للتبعية المطلقة التي يرغب الدبيبة في اعتمادها مقابل بسط نفوذه الكامل على إمارته الأسرية المرتجاة.
في المقابل وجد الأتراك في شرق ليبيا وعموم مناطق نفوذ المؤسسة العسكرية حالة من الأمن والاستقرار، بما يتيح تنفيذ خطة إعادة الإعمار والتنمية، وقوات مسلحة محترفة ومنضبطة وذات تراتبية واضحة، وبأهداف واضحة ومعلنة، وفلسفة عسكرية تتجاوز الجانب الوظيفي إلى الثوابت العقائدية التي لا يستطيع أيٌّ كان التشكيك في صدقيتها، بالإضافة إلى وضوح الرؤية والمواقف والتحالفات المبنية على الندية والاحترام المتبادل، وعدم الاستعداد للتفريط في السيادة الوطنية مهما كان الثمن.
ولأن تركيا تبحث عن مصالحها كأيّة دولة أخرى، فإن مصالحها الحقيقية مع قيادة الجيش ومجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه، مع خيارات سيادة ليبيا وأسس التعاون، كما تفرضها الرؤية الإستراتيجية للدولة، لا الحسابات الشخصية للأفراد.
من أجل تلك الاعتبارات وغيرها، رفضت أنقرة في مناسبات عدة إلحاح الدبيبة على أن تتولى سحب قواتها من قاعدة معيتيقة، بما يفسح المجال أمام الميليشيات الوافدة من مصراتة وكتائب وزارة الدفاع بحكومة الوحدة للهجوم على تمركزات قوة الردع. ورغم العروض المغرية التي تقدم بها الدبيبة للأتراك، إلا أن موقفهم لم يتغير، وتم اعتباره قرارًا سياديًا نابعًا من إرادة الرئيس أردوغان نفسه، الذي لم يعد يرغب في التورط في الصراعات الداخلية الليبية، لاسيما تلك التي تنطلق من نزعات شخصية أو عائلية أو جهوية ومناطقية، والتي يحاول الدبيبة التخفي وراءها.
ومن أجل تلك الاعتبارات وغيرها، دخلت تركيا في مشاورات مع الرجمة للحؤول دون الزج بالعاصمة في مغامرة جديدة من مغامرات الدبيبة، لاسيما أن النتائج الكارثية لأحداث أيار – مايو الماضي لا تزال ماثلة للعيان. وكانت النتيجة اتفاق طرابلس، الذي يؤكد أن الدور التركي في غرب ليبيا، والحضور القوي للقيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، أطاحا بخطة الخراب، ومنحا السكان المحليين فرصة الخروج من مربع الخوف على أنفسهم وأحبائهم وممتلكاتهم وعاصمتهم الحبيبة.