رأي

اتفاق دمشق – قسد: سلام مؤقت أم إعادة إنتاج للأزمة

كتب أمجد إسماعيل الآغا في صحيفة العرب.

التفاهمات المرحلية بين دمشق وقسد هي في العمق محاولة لإعادة توزيع النفوذ السياسي والأمني عبر صياغة علاقات تبادلية تراعي التوازنات المعقدة.

لم يكن اتفاق 10 آذار/مارس بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية بوابة لحالة من الاستقرار المستدام والتفاهمات طويلة الأمد، بل مثّل جوهر الاتفاق إطاراً شكلياً لمرحلة معقدة وحساسة تؤطر عناوين الحدث السوري. وبمعنى أدق، فقد كان هذا الاتفاق محاولة دقيقة لكنها هشّة لإعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني في سوريا، ضمن إطار تفاهم مؤقت يعكس تعقيدات الصراع السوري وتداخل المصالح الداخلية والخارجية. وبهذا فإن الاتفاق لا يُعد مجرد خطوة سياسية أو تفاهم بسيط، بل هو نتيجة لمناورة حساسة جداً تتطلب دقة عالية في الموازنة بين الأطراف المختلفة التي تحمل مواقف متباينة ومصالح متعارضة.

الاتفاق بهذا المعنى يعكس حرص دمشق وقسد على إيجاد نقطة التقاء وسطى تجنب المواجهات العسكرية المباشرة التي قد تكون مكلفة وضارة للجميع. وبالتوازي، فإن ما أُتفق عليه يبقى هشًّا جراء ضعف مستويات الثقة وتداخل المصالح الإقليمية في جوهر وعمق الاتفاق، وصولاً إلى التوترات الداخلية بين مكونات النظام السياسي السوري.

التفاهمات المؤقتة بين دمشق وقسد تعكس عمق وتعقيد المشهد السياسي السوري الذي يتسم بتشابك أبعاده بين صراع المركز والأطراف. بهذا المعنى لا يُنظر إلى هذه الاتفاقات بوصفها مجرد محطات لتعليق العنف المباشر، بل تمثل أيضاً محاولات لإعادة التفاوض على بنية النفوذ السياسي والأمني، مستوعبة التحولات الديناميكية للفاعلين كافة. غير أن هذه التفاهمات، مهما كانت إستراتيجيتها، تظل محفوفة بالمسكوت عنه سياسياً، إذ تعجز عن اقتلاع جذور الأزمة العميقة التي تظل تشكل خطوط تماس مستمرة تنذر بتجدد الصراعات، ما يعكس محدودية الحلول المؤقتة في غياب رؤية شاملة للإصلاح السياسي والتسوية الوطنية.

التفاهمات المرحلية بين دمشق وقسد هي في العمق محاولة لإعادة توزيع النفوذ السياسي والأمني عبر صياغة علاقات تبادلية تراعي التوازنات المعقدة. إلا أن هذه التفاهمات، ورغم دورها المؤقت في تثبيت بعض خطوط الاستقرار، تبقى عاجزة عن المواجهة الحقيقية للأسباب الجذرية التي أدت إلى تفكك الدولة السورية وأزمة الشرعية التي ترزح تحتها البلاد. هذه الأسباب تشمل غياب الثقة بين الأطراف، وضعف المؤسسات الوطنية، وهشاشة العدالة الاجتماعية، وصولاً إلى نظام مركزي يقمع التنوع السياسي والمجتمعي بدلاً من احتوائه. بالتالي، فإن خطوط التوتر التي يولدها هذا الواقع تبقى مفتوحة، ما يهدد بتفجر نزاعات جديدة كلما انهارت التفاهمات المؤقتة أو تراجعت مصالح الفاعلين.

◄ التفاهمات بين دمشق وقسد ليست مجرد هدنة لوقف العنف بل محاولة لإعادة توزيع النفوذ السياسي والأمني لكنها تبقى هشة وعاجزة عن معالجة جذور الأزمة العميقة في سوريا

اتفاق دمشق – قسد لا يُكتفى بتوقيعه والاتفاق على عناوينه الرئيسية فقط، بل يضع على عاتق السلطة الجديدة مسؤولية مزدوجة في مسارين:

الأول: يتمثل في ضبط خطاب الكراهية الموجه ضد قوات سوريا الديمقراطية، خاصةً أن هذا الخطاب لا يعد تهديداً بسيطاً، بل يمثل عاملاً أساسياً في تغذية العنف ومنع استقرار الوضع السياسي والأمني. إذ يمكن لهذا الخطاب أن يؤجج النقمة ويشجع على التوترات المتجددة. لذلك يعتبر التعامل مع هذا الخطاب مهمة إستراتيجية تتطلب وضع آليات وإجراءات قانونية وإعلامية وسياسية تحد من التحريض وتعزز من مناخ التفاهم والتعايش، وهو أمر حيوي لاستدامة واستقرار الوضع الراهن.

الثاني: يتمثل في هندسة خارطة طريق واضحة تُظهر الطريقة التي سيُستوعب بها هذا الاتفاق على الأرض، بحيث تتكيف الإجراءات والقرارات مع الأمن والمصالح السياسية لكلا الطرفين. إذ يجب أن تتضمن هذه الخريطة تصوراً شاملاً لتنظيم العلاقة الإدارية والسياسية والأمنية بين الحكومة المركزية وقسد، مع ضرورة وضع إطار دستوري أو تشريعي واضح يُظهر كيفية توازن العلاقة بين المركز والأطراف ويحمي وحدة الدولة الوطنية في الوقت ذاته. كما يتطلب الأمر بناء مؤسسات مشتركة تدير الشؤون الأمنية والاقتصادية بطريقة تضمن تنسيقاً مستداماً وفعّالاً يحد من فرص التصادم ويعزز الاستقرار في المناطق الخاضعة للاتفاق.

يتضح جلياً أن هذه المرحلة تتطلب إدارة حذرة ومعقدة لما يمكن أن يثير الانقسام أو يعيد الاضطرابات، لأنها محمولة على أعتاب مفاوضات سياسية وأمنية تتسم بالضعف والهشاشة. لهذا، ليست إدارة الخطاب وضبطه مسألة رمزية أو ثانوية، بل تشكل عنصراً جوهرياً في ضمان ألا تتحول الخلافات إلى صدامات عنيفة من جديد. كما أنها تضع أمام السلطة مهام عملية تكمن في ترجمة التفاهم السياسي إلى إجراءات واضحة التطبيق على الأرض، تتناسب مع المصالح الأمنية والسياسية للطرفين، وتحترم حساسية كلٍّ منهما، في سياق بناء علاقة جديدة تكونت لتتجاوز حالة العداء السابقة وتحاول تأسيس إطار تعايش مستدام ضمن بنية الدولة السورية.

من المهم التأكيد بأنه لا يمكن الحديث عن إشكاليات الاتفاق أو ضبط مساره دون التوقف عند الدور التركي وأبعاده الحاسمة في تعطيل هذا المسار. تركيا، التي ترى في وجود قسد على حدودها تهديداً وجودياً لأمنها القومي، قامت بتبني استراتيجية متكاملة تتراوح بين الضغط العسكري والسياسي بُغية إضعاف قسد وقطع الطريق أمام أي ترتيبات سياسية قد تعزز مكانتها أو تمنحها شرعية رسمية. تشمل هذه الاستراتيجية محاولة تركيا فرض رؤيتها السياسية على الإدارة الجديدة فيما يتعلق بمجمل المسارات السياسية في سورية. إذ تعد هذه الممارسات التركية عقبة إستراتيجية تعرقل نجاح الاتفاق بين دمشق وقسد وتغذي حالة من عدم الاستقرار المستدام، ما يعيق بناء أطر سياسية وأمنية راسخة.

بالنظر إلى هذا، فإن الدور التركي ليس مجرد عامل خارجي بمعزل عن الصراع فحسب، بل طرفاً فاعلاً ومحدداً لمسارات التفاوض والنزاع في سورية. إذ تعطل سياسات وممارسات أنقرة بشكل مباشر وجدي عملية التفاوض بين قسد ودمشق، وتُملي على الأخيرة شروطها التي قد لا تتوافق مع متطلبات الاستقرار أو التعايش السياسي في سوريا. هذا الأمر يعيد إنتاج حالة انعدام الاستقرار ويغذي أجواء عدم الثقة، ويجعل من الصعب تحقيق التوازن السياسي والأمني المستدام الذي يحتاجه المشهد السوري.

◄ الدور التركي يتجاوز كونه عاملاً خارجياً إذ يشكل طرفاً فاعلاً يعطل التفاوض ويعيد إنتاج انعدام الاستقرار ما يجعل تحقيق التوازن السياسي والأمني المستدام في سوريا مهمة شبه مستحيلة

يبقى مستقبل الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية معلقاً بشكل مباشر على قدرة الوسيط الدولي في لعب دور فعال وموضوعي في رصد تطبيق بنود الاتفاق وضمان الالتزام بها. وهذا يتطلب وجود آليات متابعة ومراقبة دقيقة وشفافة تضمن متابعة التنفيذ بشكل مستمر وفرض المسؤولية في حال حدوث انتهاكات أو تخلف عن التعهدات. فدور الوسيط لا يقتصر على تأسيس الاتفاق فقط، بل يمتد ليشمل تنسيق الجهود السياسية والدبلوماسية لضمان بناء الثقة بين الأطراف، وهو عنصر حاسم في بيئة تشوبها الريبة وسوء الثقة المتبادلة الممتدة على مدار سنوات الصراع.

إن محاولة إعادة تفعيل اتفاق دمشق – قسد هي خطوة هشّة لكنها دقيقة في اتجاه التهدئة وإعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني. لكن نجاحها مرتبط بشكل مباشر بقدرة السلطة الجديدة على إدارة الأوضاع الأمنية والسياسية بذكاء، واحتواء الخطاب المتعصب، وتصميم آليات عملية لتنفيذ الاتفاق بما يحقق التوازن المطلوب. ورغم ذلك، لا يجب أن يُنظر إلى الاتفاق كحل نهائي ونهضة شاملة تزيل كل أزمات النزاع السوري، بل هو محطة جديدة ضمن مسلسل طويل وشاق من المفاوضات التي تعكس التداعيات والتعقيدات العميقة للصراع متعدد الطبقات داخل سوريا. فهو جزء من عملية تحول بطيئة تسعى إلى إعادة رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين المركز والأطراف، وسط واقع مليء بالتوترات والتناقضات التي تقسم النظام السياسي وتضع تحديات مستمرة أمام قدرته على إعادة بناء نفسه بسلام.

التعامل مع الأزمة السورية يتطلب رؤية شاملة تتجاوز الاتفاقات المحلية المؤقتة، إلى مسارات سياسية وطنية تتبنى إصلاحات دستورية مع حلول عادلة للشأن الكردي، ضمان مشاركة حقيقية لجميع المكونات في الحكم، وإرساء مؤسسات قادرة على إدارة التنوع بكل أبعاده، مع القضاء على التدخلات الأجنبية التي تعمق الانقسام. فقط عبر هذه الرؤية المتكاملة يمكن تعزيز فرص الاستقرار الدائم وتحويل خطوط التوتر إلى مسارات حوار وتوافق تحترم حقوق جميع السوريين.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى