اتفاق القاهرة الذي لن يغير شيئا في المعادلة الليبية

كتب الحبيب الأسود, في “العرب” :
تصنيف ليبيا ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم يشير بوضوح إلى أن السياسة في هذا البلد تدور في فلك الفساد الذي يأتي بالمسؤولين إلى الكراسي ويمنحهم أدوات التلاعب بمسارات الحكم.
ارتفعت الأصوات المتشددة في غرب ليبيا تعلن رفضها مخرجات اجتماع القاهرة بين ممثلين عن مجلسي النواب والدولة، اتفقوا في ختامه على ضرورة تشكيل سلطة تنفيذية جديدة. بعض المتحدثين دعوا إلى رفع السلاح إذا لزم الأمر، فقط لأن الاجتماع أقر مبدأ تشكيل حكومة جديدة موحدة قادرة على توفير الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات التي لا يزال موعدها في علم الغيب، وقد ينتظر الليبيون عشر سنوات أخرى ولا تأتي.
البيان الختامي أكد على ضرورة أن تبقى العملية السياسية في ليبيا بيد المؤسسات الرسمية مع استمرار التنسيق بين المجلسين عبر قنوات مشتركة، وهو ذات ما صدر عن لقاء ثلاثي رعته جامعة الدول العربية في مارس 2024 جمع رئيسي مجلسي النواب والدولة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الذي تنصل من نتائجه لاحقا، بعد أن تبين له أن الإطاحة بحكومة عبدالحميد الدبيبة تعني الإطاحة بضمانات بقائه على رأس المجلس لمدة أطول.
اجتماع القاهرة شدد كذلك على ضرورة التزام بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بدورها المحدد في قرار إنشائها، والمتمثل في دعم المؤسسات الليبية ضمن الإطار السياسي المتفق عليه، بحيث لا تخرج عنه، ولا تحاول العمل على وضع قاعدة انتخابية جديدة من خلال مخرجات لجنتها الاستشارية التي يبدو أنها محل خلاف بسبب تركيبتها غير المتوازنة.
كلما جاء حدث ضاغط على المشهد العام، يمكن للساحر أن يخرج من جرابه ما يحرف به أنظار العوام عن السياسة. آخر ما يشد الانتباه حاليا هو احتراق المنازل تلقائيا في مدينة الأصابعة بغرب البلاد
ممثلو مجلسي النواب والدولة لا يخفون خشيتهم من أن تحاول البعثة السيطرة على آليات الحل وتهميش دورهما. بالمقابل، هناك من الفرقاء من يتمنى في سره احتدام الصراع بين المجلسين والبعثة بما سيؤدي حتما إلى تعميق حالة الانقسام وإبقاء أصحاب السلطة في مواقعهم بما تعنيه السلطة من وضع اليد على مفاتيح الثروة والعبث بالمال العام من دون حسيب أو رقيب.
تصنيف ليبيا ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم، يشير بوضوح إلى أن السياسة في هذا البلد تدور في فلك الفساد الذي يأتي بالمسؤولين إلى الكراسي، ويمنحهم أدوات التلاعب بمسارات الحكم وبخارطة العلاقات الإقليمية والدولية. والذين يستحضرون في كل مناسبة قضية تمويل الزعيم الراحل معمر القذافي الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي يمكن أن يتحدثوا عن الكثير من الحالات التي جدت بعد 2011، ولاسيما من حيث المبالغ الضخمة التي يتم توزيعها نقدا في أكثر من اتجاه بهدف شراء مواقف الدعم للاستمرار في مركز القرار السياسي ومن ورائه مراكز إدارة الفساد.
خلال اجتماع البرلمان العربي بالقاهرة قبل أيام، دعا رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح إلى مساندة مجلسه في ممارسة مهامه التشريعية ووقف التعامل مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة التي وصفها بسلطة تنفيذية انتهت المدة المحددة لها، وتفتقر إلى الشرعية التي تتخذها الحكومة من الشعب عن طريق نوابه.
حكومة الدبيبة سارعت بالرد على عقيلة، وقالت إنها تستهجن وترفض ما وصفتها بالمغالطات القانونية والسياسية التي أدلى بها، والتي رأت أنها ذات طابع جهوي، وأنها تعزز خطاب الكراهية، ما اعتبرته يتنافى مع مبادئ الوحدة الوطنية ومساعي الاستقرار في ليبيا. كما اعتبرت أن أداء رئيس مجلس النواب يتحول إلى نهج أقرب إلى قيادة حزب سياسي فردي يحتكر رئيسه قراراته.
حكومة الدبيبة أوضحت أن جميع المؤسسات القائمة اليوم، بما فيها مجلس النواب، انتهت مدتها الدستورية ولا تمتلك شرعية شعبية متجددة، بل تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي، وهي متساوية في ذلك. في هذه النقطة أصاب كاتب البيان، فمجلس النواب الحالي منتخب منذ العام 2014 وهو بقايا برلمان بعد أن مات من مات وقُتل من قُتل وانشق من انشق وباعه من باعه مقابل منصب حكومي أو دبلوماسي أو صرّة مال من تلك التي أصبحت عملة رائجة خلال السنوات الماضية. وحكومة الدبيبة التي جاءت من أجل الحلم لمدة عشرة أشهر مر على تنصيبها أربع سنوات. أما مجلس الدولة فهو من مخلفات المؤتمر الوطني العام المنتخب في العام 2012 وتم تدويره في العام 2015 من خلال اتفاق الصخيرات، واليوم يواجه انقسام الولاءات بين شخصيتين تتنازعان رئاسته: خالد المشري الذي يساند مجلس النواب في دعوته إلى تشكيل سلطة تنفيذية جديدة، ومحمد تكالة المتحالف قلبا وقالبا مع الدبيبة والذي بإمكانه الطعن في مخرجات اجتماع القاهرة وفي أيّ مخرجات أخرى قد تصدر عن أيّ توافق بين المشري وعقيلة.
الدبيبة يتحرك على أكثر من صعيد لترذيل أيّ قرار صادر عن مجلس النواب، والتشكيك في مواقف معارضيه الذين يتهمونه بالانقلاب على الاتفاق السياسي
يتحرك الدبيبة على أكثر من صعيد لترذيل أيّ قرار صادر عن مجلس النواب، والتشكيك في مواقف معارضيه الذين يتهمونه بالانقلاب على الاتفاق السياسي. هو لا يحتاج لإقناع تيار الإسلام السياسي وفريق رئيس دار الإفتاء الصادق الغرياني وأمراء الحرب الممسكين بالقرار الميداني، بأنه مستهدف من مصر وحلفائها الإقليميين، فقط لأنه يحمي سيادة ليبيا ويدافع عن ثوابت ثورة فبراير. وهو يعتمد على الدعم المباشر من تركيا وإيطاليا، وسافر إلى قطر عساها تنقل رسالته إلى واشنطن بحثا عن منفذ يساعده على كسب مودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لم يبدِ إلى حد الآن أيّ اهتمام بالملف الليبي، وقد لا يهتم كثيرا بالدور الروسي في برقة وفزان، وربما يمد يده في لحظة ما إلى الماريشال خليفة حفتر الذي كان اتصل به في أبريل 2019 ليشكره على حربه ضد الإرهاب.
أكثر ما يثير القلق في الساحة الليبية حاليا، هو أن هناك من يتعمد قرع طبول الحرب وخاصة في طرابلس، وهناك من يتحدث عن النموذج السوري ناسيا أن الأمر ليس نفسه وإنما هو نقيضه، ففي سوريا ذهب مسلحو إدلب إلى دمشق، وانتصر الهامش على المركز المعترف به دوليا، والذي سقط هو النظام الحاكم. وبالتالي فإن ما يقابله منطقيا هو أن تمضي بنغازي نحو طرابلس للإطاحة بالنظام القائم فيها. لكن ذلك غير ممكن، وغير متاح، والوضع في ليبيا اليوم ليس هو وضع سوريا قبل الثامن من ديسمبر الماضي.
خلاصة الكلام، أن مخرجات الاجتماعات وتشنج التصريحات وفحوى المبادرات، لن تعجل بتنظيم الانتخابات، ولن تعيد توحيد المؤسسات، ولن تخرج بالبلاد من أزمتها. والسبب بوضوح أن المتمركزين في السلطة سعداء بما هم فيه، وخلافاتهم تصب في مصالحهم، وقد أثبتت التجارب أنهم يضحكون من الجميع، ويتلاعبون بالبعثة الأممية كما يشاؤون، واتفاق مبعوثي مجلسي النواب والدولة في القاهرة سبقته عشرات الاتفاقات الأخرى في عواصم عدة من دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ.
وكلما جاء حدث ضاغط على المشهد العام، يمكن للساحر أن يخرج من جرابه ما يحرف به أنظار العوام عن السياسة. آخر ما يشد الانتباه حاليا هو احتراق المنازل تلقائيا في مدينة الأصابعة بغرب البلاد، والذي رده المحللون إلى تصرف أرعن من الجن دون المزيد من المعطيات.