إيقاع العلمانية الخليجية!

كتب محمد ناصر العطوان في صحيفة الراي.
ما هو إيقاع العلمانية في دول الخليج؟
الإجابة…على وحدة ونص.
إنّ الملاحظ في دول الخليج أنها أصبحت تمارس العلمانية الاجتماعية فقط، وليس السياسية بما تحمله من ديموقراطية وتوافقية ومشاركة وحرية للرأي والتعبير والصحافة والرقابة المجتمعية وشفافية في المعلومات ونقطة ارتكاز واحدة من الجميع بالتساوي… فقط تمارس علمانية اجتماعية بما تحمله من حرية في السلوك والاستجمام، وظهور للعدم بصورة الوجود، وحجب بالعدم عن جمال الوجود.
تصبح علمانية من هذا النوع استهلاكية جداً… كنهر بضفة واحدة، تجري المياه الفاقع لونها فيه أمام الناظرين فيتواجد المفكرون بلا فكر والفلاسفة بلا فلسفة، ويهجم الصمت الذي في الضفة الواحدة على الصمت الذي في الضفة نفسها لكي يحوله إلى «خرس» فلا منطوق في عالم الكلام ولا كلام في عالم الصمت!
في علمانية من هذا النوع ليس أمامك سوى خيارين، إما السير مع النهر في جريانه ومشاهدة أناس على الضفة الواحدة مصنوعين من الهلع، وإما الوقوف على الضفة ومراقبة المطر الذي يسقط دون أن يكون هناك وجود لنقطة ماء متفردة بين حباته التي تشترك جميعها في سباق الفائز فيه هو من يصل إلى قاع النهر مبكراً.
أشعر بضرورة لفت انتباه القارئ الكريم إلا أنني لا أستخدم المجاز هنا في النص، بل أشير إلى حقيقة الأشياء.
حيث يصبح الكافيه صياداً للعاشقين الموقتين وليس للرفاق الدائمين، والفندق لعابر السرير وليس السبيل والمحاكم للانفصال وليس الارتباط، والطائرة للهروب وليس السفر، والكُتّاب الأحياء هم الكُتّاب الأموات ولكن يتنفسون، والكتّاب الأموات هم الأحياء بنصوصهم، وتتقدم هياكل الموتى كل أحلام التغيير، وتصبح الغالبية الاجتماعية أشد طغياناً من الديكتاتوريين، ولا تصبح الدولة هي تجمع أفراد في لحظة معينة بل شركة كبرى لا يستطيع دخولها من يحملون التذاكر، ولا تصبح السياسة فن المواءمة بين أهداف الأقليات المتضاربة ومصلحة الجماعة المستمرة، بل تعزيز عواطف الناس المشبوهة وتعميمها على الأغلبية التي سرعان ما ستشرب من النهر كي لا تتهم بالجنون.
كتب دوستيفسكي ذات يوم «إذا لم يكن هناك إله، فكل شيء مباح»… ولكن ما كان يجب أن يقال أيضاً أنه ورغم وجود الإله فليس بوسع المؤمنين به أن يعاملوا غير المؤمنين به باستباحة!
وما قاله دوستيفسكي أو ما أضيف عليه يمكن تصنيفه ضمن الإطار الثقافي الديني القابل للتجديد… أما إيقاع العلمانية الخليجية فلا تقبل الإضافة أو النقد، لأنه في النهاية هناك فرق بين تعدد الآلهة وتشتيت الناس وإخراسهم، وبين إله واحد وأصوات متعددة تخلق حواراً بين الناس.
العلمانية في المجتمعات الخليجية… إما معنا أو اذهب للجحيم، ففي الوقت الذي تطالب فيه بنقد الخطاب الديني والمراجعات الفكرية وتعديل الخطاب، نجدها لا تطبق مبادئها على ذاتها وكأنها وصلت للحقيقة، العلمانية التي تحارب كل من احتكر الحقيقة أصبح لها حقيقة تدافع عنها وهي الحرب على الطرق المتنوعة للحياة في السياق الاجتماعي، والتنوع فقط لديها في السلوك الاجتماعي الذي يشبهها!
العلمانية التي كانت تنادي بألا يصفق المجتمع بيد واحدة، أصبحت تقطع كل يد تحاول أن تصفق مع اليد الأخرى.
لذلك نجد أن أهم ما يشغلها هو «البيكيني» والحجاب والاختلاط والبارات ومعابد البوذا وزيارة البابا والتطبيع المسالم والحفلات والشذوذ والاحتفال بالكريسماس، ولماذا تمنع الكتب الإباحية… لعبة من التناوب التي تحبس الأنفاس وتعيد تكرار نفسها باستمرار.
ماذا إذاً (!) يجب ألا نعقد الأمور! دعونا نقول الأشياء على حقيقتها.
لا مشكلة لديّ شخصياً في كل ما سبق، ففي النهاية كل سلوك اجتماعي أو فكري يمثل صاحبه، ولكن أن يكون الإيقاع السائد هو رفع مطرقة الساحرات على رقاب كل من يحاول إيجاد بديل أو خلق مساحة للحوار واتهامه بأنه من «المشعوذين» الرجعيين أصحاب الكهف والحوت وجبال القاف… هنا يصبح الإيقاع سباقاً نحو القاع.
إننا في نهاية الأمر لا نلمس إخلاصاً للعلمانية في دول الخليج بقدر ما نلمس تحريفاً لها، فهي لا تنصب المحاكم من أجل رجل ينام في السجن بلا محاكمة، ولكنها تسقط المقصلة على رأس رجل ينتقد سلوكها، وتصرخ بأعلى صوتها لبناء معابد لأقليات دينية ولكنها تصاب بالخرس تجاه أقليات اجتماعية مهمشة أو تم تهميشها. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله…أبتر.