إيران وترمب… العودة إلى عقلانية التعامل
كتب حسن فحص في صحيفة إندبندنت عربية.
يبدو أن الحكومة الإيرانية بقيادة الرئيس مسعود بزشكيان بدأت تستوعب المتحول الذي أنتجته الانتخابات الأميركية وعودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض لدورة جديدة ستستمر أربعة أعوام.
أول مؤشرات هذا الاستيعاب أن المسؤولين الإيرانيين تخلوا عن الاستخفاف بهذه النتائج، وابتعدوا من اعتبار التغيير في الإدارة الأميركية “لا يعني لإيران شيئاً ما دام أن السياسات الأميركية لا تتغير في التعامل مع إيران وأن طهران تأخذ بالأعمال لا بالأقوال” التي أشارت إليها المتحدثة باسم الحكومة السيدة فاطمة مهاجراني، ثم عاد وأكد هذه القراءة رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف.
وعلى رغم أن كلام مهاجراني يعبر حكماً عن موقف رئيس السلطة التنفيذية، فإن مؤشرات العودة إلى الواقعية بدأت تتبلور داخل الحكومة، وترجمتها مرة أخرى تصريحات المتحدثة نفسها، وتمحورت حول دعوة الرئيس الأميركي الجديد إلى تبني سياسات جديدة تجاه إيران، أو من خلال دعوة ترمب إلى “تجنب مسار خاطئ قد ينتهك حقوق الشعب الإيراني” وصولاً إلى التأكيد أن طهران “ستعمل وفقاً لما يحقق مصالح البلاد”.
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من جهته، في أول موقف له من نتائج الانتخابات الأميركية، كان أكثر واقعية ووضوحاً بالحديث عن “غياب استراتيجية إيرانية واضحة للتعامل مع المتغير الأميركي”، مشيراً إلى ضرورة التنسيق مع المرشد الأعلى لوضع الإطار العام لآليات التعامل مع عودة ترمب للبيت الأبيض.
النقلة النوعية في موقف الرئيس الإيراني الذي وصل إلى الرئاسة تحت شعار “الوفاق الوطني وخفض التوتر مع الخارج وإدارته بإيجابية”، من خلال الإشارة إلى استراتيجية حكومته في السياسة الخارجية و”ضرورة إدارة العلاقة مع أميركا”، هي استراتيجية تقوم على آليات مختلفة عن السابق وتبتعد من التصرف أو التعاطي العدائي وتنسجم أكثر مع السعي إلى إدارة التصعيد بين البلدين.
مواقف بزشكيان جاءت خلال لقائه مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين الحاليين والسابقين بحضور وزراء الخارجية السابقين من علي أكبر ولايتي (كبير مستشاري المرشد الأعلى)، إلى كمال خرازي (مستشار المرشد ورئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية)، وعلي أكبر صالحي (المسؤول عن إجراء أول مفاوضات مباشرة مع الإدارة الأميركية في سلطنة عمان عام 2012)، إلى جانب الوزير الحالي عباس عراقجي ومساعده للشؤون الاستراتيجية وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف اللذين أدارا ملف المفاوضات في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، وصولاً إلى توقيع اتفاق عام 2015 مع السداسية الدولية أو مجموعة دول (5+1)، مما يعني أن القيادة الإيرانية الرسمية بدأت محاولة جدية لرسم المسار الذي ستكون عليه سياستها ومواقفها من المتغير الأميركي وكيفية إدارته على المستوى الثنائي، وفي ما يتعلق بآليات إعادة إحياء المفاوضات النووية وإلغاء العقوبات الاقتصادية وصولاً إلى الملف الأكثر تعقيداً الذي يرتبط بالمصالح والأمن الاستراتيجي لإيران ودورها ونفوذها في منطقة غرب آسيا، بخاصة التصعيد الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط وكيفية الخروج الآمن من الحرب التي تقودها إسرائيل على قطاع غزة وضد “حزب الله” الحليف الإقليمي الرئيس لها ورأس مشروعها الإقليمي.
العودة الإيرانية للواقعية تعني أن مساراً جديداً قد تخرج به القيادة الإيرانية في ما يخص الحوار والتعامل مع الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة، يعني الاعتراف بالحقائق السياسية، سواء رفضتها إيران أو قبلت بها التي تضعها في مواجهة أزمة التعامل والتعاطي مع هذه الإدارة والدولة، أي أميركا، في مجال العلاقات الدولية والتعامل مع المجتمع الدولي. بالتالي، فإن المتوقع من القيادة الإيرانية أن تأخذ المبادرة في هذا الإطار وأن تعمل على أن تكون قادرة على الإمساك بزمام المبادرة، فتمنع أي محاولة فرض مواقف عليها، أو أن تكون مجبرة على تقديم تنازلات على حساب مصالحها.
ومصالح النظام الإيراني تفرض عليه اللجوء إلى استراتيجيات جديدة، فهو مجبر على قراءة مختلفة للسياسات والمواقف التي قد يلجأ إليها الرئيس الأميركي ويعتمدها في ولايته الجديدة، بخاصة أن الترجمة السابقة ما بين عامي 2017 و2021 لم تكُن في مصلحة إيران التي تعرضت لكثير من الضغوطات غير المسبوقة وتكبدت خسائر اقتصادية كبيرة، إضافة إلى خسارتها الاستراتيجية التي تمثلت في اغتيال رأس مشروعها الإقليمي قائد “قوة القدس” قاسم سليماني.
وإذا ما كانت إيران استطاعت تحويل قرار الرئيس ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018 إلى فرصة لإعادة تفعيل برنامجها النووي وتطوير عمليات تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 60 في المئة وزيادة أجهزة الطرد المركزي المتطورة، فإنها وأمام ما أكده ترمب خلال حملته الانتخابية لناحية تمسكه بسياسة منع إيران من امتلاك السلاح النووي، قد تكون قادرة على تحويل هذا الموضوع إلى ورقة قوية على طاولة التفاوض مع واشنطن، خصوصاً أن الفرصة تبدو سانحة من خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي إلى طهران والتي حدد موعدها النهائي بالتزامن مع إعلان نتائج الانتخابات الأميركية بعد مماطلة الطرفين خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت هذه الانتخابات.
الانفتاح والإصرار والتأكيد على سياسة التعاون مع الدول العربية، تحديداً الخليجية، وخصوصاً مع السعودية باعتبارها المفتاح الأساس والاستراتيجي لأي موقف إقليمي، تشكل في هذه المرحلة هاجساً جدياً وهدفاً استراتيجياً للقيادة الإيرانية، لما لها من تأثير في المعادلات السياسية ضمن أي مواجهة مرتقبة مع الولايات المتحدة، بخاصة إذا ما أخذت طابعاً عسكرياً. بالتالي فإن تعميق العلاقة مع الرياض وتطويرها وإزالة الشوائب التي تعترض مساراتها، قد تساعد في فتح قنوات جديدة من التواصل ترغب فيها طهران مع واشنطن. من هنا يمكن فهم الترحيب الكبير الذي حظي به الاتصال الهاتفي الذي جرى بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان والذي جاء متزامناً مع زيارة رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية الفريق أول الركن فياض بن حامد الرويلي إلى طهران ووصفها بالتاريخية.
وتبرز أهمية الدور السعودي في المعادلة الإيرانية في ظل ما تواجهه من تحديات على المستوى الإقليمي وما يتعرض له حلفاؤها من ضربات إسرائيلية، خصوصاً أن طهران تسعى إلى إبقاء هذه المواجهة مضبوطة تحت سقف لا يقود إلى صراع مباشر بينها والولايات المتحدة، وأن إدارة هذه الأزمة قد تقود أو تفرض على طهران إحداث تغييرات جوهرية في مواقفها التاريخية في ما يتعلق ليس فقط بمسألة الحوار المباشر مع واشنطن، بل بما يصل أيضاً إلى ضرورة التعاون بينهما وصولاً إلى بناء علاقات مباشرة، وهذا المسار يستدعي شركاء إقليميين فاعلين وقادرين على تدوير الزوايا بين الطرفين.