رأي

إيران‮: ‬المغرب الكبير‮ ‬ومعادلة الفراغ‮ ‬الثلاثي

كتب عبد الحميد اجماهيري في صحيفة العربي الجديد.

‬وجدت إيران نفسها أمام فراغ‮ ‬ثلاثي‮ ‬الأبعاد‬،‮ ‬بعدان منها في‮ ‬حكم التراجيديا، بعد ‬الحادث المأساوي‮ ‬الذي‮ ‬أودى بحياة الرئيس إبراهيم رئيسي‮ ‬إلى جانب وزير خارجيّته حسين أمير عبد اللهيان، ‬والثالث هو في‮ ‬حكم المستقبل القريب، بحثاً عن خليفة ‬للمرشد العام علي‮ ‬خامنئي‮. ‬وبفعل هذا الفراغ،‮ ‬الفعلي ‬في‮ ‬حالتي‮ ‬رئاسة الدولة ورئاسة الديبلوماسية،‮ ‬والمُرتقب في‮ ‬حالة‮ ‬منصب المرشد الأعلى‮ علي ‬الحسيني‮ ‬الخامنئي،‮ الذي‮ ‬فَقَد مع موت رئيسي‮ ‬الخليفة المُحتمل‮،‮ ‬باعتبار أنّ ‬الولي الفقيه ‬هو الذي‮ ‬يتمتع بالسلطة المطلقة‮، ‬ويحسم ‬كلّ القضايا السيادية، ‬ومنها العلاقات الخارجية‮. بفعل هذا الفراغ، ‬كيف سيتصرّف اللاهوت الدستوري‮ ‬ب‬الوضع الدولي‮ ‬للبلاد؟‬
وإذا كان النظام لن‮ ‬يعاني‮ ‬داخلياً‬ ‬بشكل عميق من تبعات هذا الفراغ‮ ‬الثلاثي،‮ ‬بسبب‮ ‬مُميّزات النظام في‮ ‬إيران، ‬المبني على‮ ‬الحكم اللاهوتي‮ ‬المستند إلى ‬شرعية دستورية ‮(ما ‬يجعل منه نظامَ‮ ‬لاهوتٍ‮ ‬دستوري)، ‬فإنّ تأثيرات الحسابات الكامنة في‮ ‬الفراغ‮ ‬المشار إليه‮ ‬في العلاقات الدولية‮ ‬لا بد أن تفرض نفسها‮. ولعلّ في‮ نفي‮ ‬الجيش الإيراني‮ ‬فرضية وجود عمل إجرامي‮ ‬أسفر عن تحطّم المروحية ‬بدايةَ تهدئةٍ في‮ ‬العلاقة مع كلّ الخصوم الدوليين والإقليميين‮، ‬وهو من صميم المسعى ‬الذي‮ ‬اتبعته طهران، إلى حدّ الساعة، في‮ ‬محاولة تفادي‮ ‬الحروب المفروضة عليها، ولو كان ذلك باغتيال قادة استراتيجيين في‮ ‬النظام. في‮ ‬مقابل ذلك،‮ ‬يشتغل‮ ‬الخيال السياسي،‮ ‬الذي‮ ‬أنعشته الظروف الحربية في الشرق الأوسط، وتبادل الهجمات، والاستراتيجيات المتناقضة بين عديد من العواصم،‮ ‬ويميل إلى ‬التشكيك في‮ ‬التدبير الرسمي‮ ‬للنهاية التراجيدية،‮ من دون‮ تقديم دلائل‮. ‬ويمكن أن يُستخلص من ذلك أنّ طهران تعتبر عودة الانتظام إلى حياتها الداخلية، ‬وترتيب مخلّفات الفاجعة علي‮ ‬توازنات النظام أولوية الأولويات‮. ‬فليس سهلاً أن تجد دولة كبرى، مثلُها، نفسَها أمام فراغٍ‮ ‬رئاسي‮ ‬متعدّد الرؤوس‮.‬

“‬ديبلوماسية التعازي” ‬لا تظلّ من دون امتدادات،‮ ‬لا سيّما إذا استحضرنا أنّ العلاقات المغربية الإيرانية عادة ما تكون كأسنان المنشار، فيها صعود وهبوط‮‬

ومن معاني‮ ‬ذلك، ذات الدلالة، أنّ وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي‮ ‬هي‮، ‬في‮ ‬الوقت ذاته، وفاة الخليفة المُحتمل‮ ‬لآية الله علي‮ ‬خامنئي‮. ‬وهي في‮ ‬حدّ ذاتها موتٌ مضاعفٌ ‬بالنسبة لمؤسّسة تقوم على اللاهوت والدستور معاً،‮ أي‮ ‬صلاحيات الرئيس‮ (الدهرية‮)، ‬وصلاحيات المُرشد والولي الفقيه (‬الروحية‮). والمحقّق أنّ‮ ‬النهاية من دون أيّ‮ ‬تدخّل خارجي‮ ‬تخلق الفراغات‮ ‬غير المناسبة، في‮ ‬وقت توجد فيه إيران في‮ ‬تقاطع طرق جيوستراتيجية عديدة‮، منها الجبهات المُعلنة في‮ ‬المنطقة ‮(‬حروب اليمن وسورية وغزّة والعراق، ‬وما إلى ذلك‮ ‬من مواجهات باب المندب)، ‬والتناقضات التي‮ ‬ترعاها في‮ ‬المغرب الكبير وفي‮ ‬أفريقيا‬،‮ ‬ووجودها هي‮ ‬ذاتها في‮ ‬منافسات كبرى على ‬الساحة الدولية، بالإضافة إلى ‬محاولة تموقعها في‮ ‬شمال أفريقيا وجنوب أوروبا‮. ‬وهذا كلّه يجعل من طهران ملتقى نيران عديدة، منها نيران الأعداء القريبين والأعداء البعيدين‮. ولعلّ قراءة العواصم للتحولات المتوقّعة ‬في‮ ‬السردية الإيرانية الجديدة ‬ستأخذ بالحسبان هاته التحوّلات.‮ ‬ومن هنا، فإنّ دول المغرب الكبير لن تشذ عن القاعدة‮. ففي هذا المستوى‮،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يختلف فقيهان جيوسياسياً في أنّ جزءاً من السياسة الإيرانية‮ ‬يتوجَّه إلى المنطقة لاعتبارات عديدة‮. ‬لعلّ منها الموقع في‮ ‬القارة وفي‮ ‬حوض المتوسّط،‮ ‬وكذلك الموقع على حدود القارة الأوروبية‬،‮ ‬الجنوبية والشرقية المتوسّطية‮، ‬وعلاقتها مع دول المنطقة بلون الطيف الذي‮ ‬يميّز مواقف هاته الدول،‮ ‬فهي‮ ‬مقطوعة مع المغرب لاعتبارات تتعلّق بالموقف الإيراني‮ ‬من الصحراء المغربية،‮ وهو الموقف الذي‮ ‬فرض على الرباط قطع علاقتها‮،‮ ‬لا سيّما بعدما رفضت إيران ما قدّمته المملكة من حجج‮ بشأن تورّط مليشيات الحرس الثوري‮ في‮ ‬تنسيق مع الانفصاليين الصحراويين الموجودين فوق التراب الجزائري‮، من أجل استيراد السلاح المتطوّر، وتلقّيهم ‬الدعم‮ ‬عبر قنوات السفارة الإيرانية في‮ ‬البلد المغاربي‮.‬ ولم‮ ‬يمنع قطع العلاقات بين البلدين من إعلان المغرب عن تعازيه‮ “للشعب الإيراني‮ ‬ولعائلات الضحايا”، ‬وهو موقف‮ ‬له اعتباراته الروحية والدينية،‮ ‬لكنّ‮ “‬ديبلوماسية التعازي” ‬عادة لا تظلّ من دون امتدادات،‮ ‬لا سيّما إذا استحضرنا أنّ العلاقات المغربية الإيرانية عادة ما تكون كأسنان المنشار، فيها صعود وهبوط‮.‬

يبدو أنّ الموقف الثابت، عربياً، هو الحفاظ على دعم الوحدة الترابية للمغرب ضدّ إيران، وغيرها من الدول، التي‮ ‬تسير في‮ ‬أفقها الاستراتيجي‮

في‮ ‬الوقت ذاته،‮ ‬ليس خفيّاً أنّ جزءاً من الحرب في‮ ‬الشرق الأوسط‮ ‬يجد صداه في‮ ‬المغرب الكبير‮‬.‮ ‬ولهذا، حشرت إيران نفسها في‮ ‬الصراع بين الجارتين الشقيقتين في‮ ‬الغرب الإسلامي‮ ‬من زاوية دعم الأطروحة الانفصالية في‮ ‬المنطقة‮. ‬ولعلّ النقطة التي‮ ‬رفعت من درجة التوتّر ‬التصريحات التي‮ ‬سبق أن أدلت بها قيادات من “بوليساريو” بشأن توصلّها بمُسيّرات إيرانية‮‬،‮ ‬تم تجريبها في‮ ‬الحرب الأوكرانية الروسية بنجاح‮.‬ ‬وإلى ذلك، نشطت الرباط‮ ‬داخل ‬اللجنة الرباعية التابعة لجامعة الدول العربية،‮ المكلّفة بكلّ ما له علاقة بالتدخّلات الأجنبية في‮ ‬الشؤون العربية،‮ ‬ونجحت في‮ إصدار مواقف عربية مساندة للمغرب في‮ “‬رفض التدخّلات الأجنبية، واستهداف الوحدة الترابية لكلّ البلدان العربية”‬،‮ ‬وظلّ الموقف نفسه حتّى إبّان القمّة التي‮ ‬احتضنتها الرياض‬،‮ ‬في‮ ‬تزامن‮ مع المصالحة السعودية الإيرانية‮.‬‮ ‬ويبدو أنّ الموقف الثابت هو الحفاظ على دعم الوحدة الترابية للمغرب ضدّ إيران، وغيرها من الدول، التي‮ ‬تسير في‮ ‬أفقها الاستراتيجي‮.‬
تضاف إلى ما سبق‬ ‬منافسة حادّة‮ ‬ثلاثية الأضلاع بين المغرب وإيران وتركيا، في‮ ‬المناطق التي‮ ‬انسحبت منها فرنسا،‮ ‬وقد كان ذلك موضوع تقرير وكالة فرانس بريس،‮ ‬أنّه “مع انسحاب فرنسا من منطقة الساحل الأفريقية،‮ ‬يضاعف المغرب وتركيا وإيران مبادراتهم حيال الأنظمة العسكرية الحاكمة في‮ ‬المنطقة، التي‮ ‬تسعى إلى تنويع شركائها‮”. ‬ويرى المحلّلون الفرنسيون أنّ من الممكن أن‮ ‬يواجه كلٌ من ‮”‬المغرب وتركيا اللذين‮ ‬يتمتّعان بنفوذ منذ فترة طويلة في المنطقة،‮ ‬منافسةً جديدةً من إيران، التي‮ ‬زادت مبادراتها منذ 2020، ‬والانقلابات في‮ ‬مالي‮ ‬وبوركينا فاسو والنيجر‮”.‬ وإذا كانت العلاقة الأخرى تملك بصماتها الخاصّة، فممّا لا شك فيه أنّ تموقع إيران بين الرباط والجزائر‮ ‬يُرخي‮ ‬بظلاله على باقي‮ ‬العلاقات في‮ ‬المنطقة، ‬ومن ذلك الموقف التونسي‮، ‬ولعلّ الرئيس قيس سعيّد ‬خرج عن كلّ التحفّظات التي‮ ‬دأبت عليها تونس تجاه نظام إيران منذ‬ 1965، إبّان زيارة الرئيس‮ ‬الأسبق الحبيب بورقيبة لطهران في أيام‮ ‬الشاه، ‬وقد توجّه قيس سعيّد، الذي‮ ‬واجه عزلة‮ ‬غير مسبوقة سياسياً وجيوستراتجياً، إلى‮ ‬طهران لحضور الجنازة، ‬وحظي‮ ‬بلقاء المرشد الأعلى،‮ ‬وتنويه ديبلوماسي ‬يشبه إلى حدّ كبير الاحتضان (!‮)‬

بالنسبة إلى كلٍ من ليبيا وموريتانيا،‮ ‬تسعى إيران إلى وجود اقتصادي‮ ‬وسياسي،‮ ‬لا تخفى ظلاله،‮ ولا ‬سيّما في العلاقة مع نواكشوط

ولعلّ السلوك التوسّعي‮ ‬تجاوز حتّى ‬الجزائر، التي‮ ‬تربطها علاقات أقوى‮ ‬مع الملالي، إذ اكتفت الدولة الجزائرية ببعث وفد‮ ‬يترأّسه رئيس‮ ‬البرلمان إبراهيم بوغالي،‮ ‬ولم‮ ‬يجد في‮ ‬استقباله سوى رئيس لجنة الأمن القومي‮ ‬في‮ ‬البرلمان الإيراني‮ أبو الفضل عموئي‮. ‬والحال أنّ أول اتصال مع المسؤولين السامين الإيرانيين حظي‮ ‬به قيس سعيّد كان في‮ ‬الجزائر،‮ ‬على هامش قمّة الدول المصدّرة للغاز‬، إذ حرصت الجارة الغربية لتونس على تنظيم لقاء سعيّد والراحل إبراهيم رئيسي‮. لهذا، لوحظ أنّ السفر الرئاسي‮ ‬يعدّ تحوّلاً فارقاً في‮ ‬العلاقة مع طهران، بل اعتبرته عواصم‮ ‬غربية “مثار أسئلة بشأن التموقع الاستراتيجي‮ ‬لتونس”، ‬التي‮ ‬تعرف علاقاتها توتّراً عميقاً مع الغرب، ‬وفي‮ ‬وقت تقلّصت فيه هوامش مناورات سعيّد،‮ ‬وخصوصاً في‮ ‬بحثه عن الخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة، وعجزه عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ‬ومن السعودية، ومن الدول الغربية‮. ‬وممّا‮ ‬يزيد من‮ ‬نفوذ إيران ‬في‮ ‬قصر قرطاج وجودُ مجموعةٍ من المُقرّبين والمستشارين‮ ‬الرئاسيين الذين لا‮ ‬يخفون‮ “‬قرابتهم” ‬الأدبية والسياسية مع الملالي،‮ ‬ولعلّ أولهم شقيق الرئيس نوفل سعيّد‮.‬
بالنسبة إلى كلٍ من ليبيا وموريتانيا،‮ ‬تسعى إيران إلى وجود اقتصادي‮ ‬وسياسي،‮ ‬لا تخفى ظلاله،‮ ولا ‬سيّما في العلاقة مع نواكشوط،‮ ‬التي‮ ‬عرفت تحوّلاً مُهمّاً مع زيارة وزير الخارجية الإيراني الراحل (يناير/ كانون الثاني 2023)، وكذلك منذ ارتفاع درجة اهتمام الحلف الأطلسي‮ ‬بموريتانيا،‮ إذ ليس خافياً أنّ إيران تريد أن تحدّ من نفوذه، وأن‮ ‬يكون لها موقع قدم في‮ ‬البلاد، ‬علاوة على رغبة موريتانيا الاستفادة‮ ‬من‮ ‬حالة‮ ‬التحوّل‮ ‬الجيوستراتيجي،‮ ‬التي‮ ‬شهدها‮ الشرق الأوسط‮، ‬لفائدة تلطيف الأجواء بين طهران وعواصم‮ ‬لها علاقات وطيدة مع نواكشوط‮. ‬
أي‮ُّ ‬أفق لهاته التحوّلات؟… في‮ ‬الجواب عن السؤال سيتضح‮ ‬ما إذا كانت سلطة الحرس الثوري‮، ‬والقوّة المحافظة الأكثر تشدّداً،‮ ‬ستزداد قوّة، أو‮ ‬أنّ‮ ‬الاشتراطات الجديدة ستغيّر‮ ‬من‮ ‬تقدير الموقف، ‬وما إذا كانت إيران ستميل أكثر إلى منطق الدولة أو إلى منطق الثورة،‮ ‬التي‮ ‬قيل إنّ الإمام الخميني‮ ‬خلقها، ولكنّ خامنئي‮ ‬هو الذي‮ ‬صدَّرها. في‮ ‬الجواب عن السؤال‮، ‬‬ليس‮ ‬تكهّناً القول إنّ العلاقة مع طهران ستظلّ عنصراً ثابتاً من عناصر التوتّر الكبرى في‮ ‬المغرب الكبير‮.‬

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى